السلطة والأيديولوجيا واللاوعي الثقافي في كتاب لأنتوني إيستهوب

يتميز كتاب “اللاوعي” الصادر عن منشورات دار روتليج البريطانية للنشر لأنتوني إيستهوب، الذي يدرّس اللغة الإنجليزية والدراسات الثقافية بجامعة مانشستر البريطانية، بأنه مختصر ودقيق في آن واحد، وهو مفيد للدارسين والنقاد ولطلاب الدراسات العليا وخاصة لأولئك المنخرطين في مجالات النقد الثقافي، والدراسات النسوية، والدراسات الإثنية، والتحليل النفسي للتاريخ، وغيرها من الحقول المعرفية.

يركز الكتاب الممتع والغني بالأفكار على عدد من المحاور الأساسية المتداولة في حقل التحليل النفسي الحديث والمعاصر منها: اللاوعي عند فرويد ولاكان، الوعي والأنا، اللاوعي والجنسية، اللاوعي والنص، اللاوعي والتاريخ.

ليس كتاب “اللاوعي” دراسة تاريخية مكرسة لتقصي تاريخ نشأة وتطور التحليل النفسي في الثقافة الغربية على نحو خاص، كما أنه ليس بحثا إكلينيكيا يتناول حالات نموذجية بالدرس والتحليل، وإنما هو محاولة لتمحيص وتدقيق مفهوم التحليل النفسي من جهة واختبار نظرياته وهي تعمل في الثقافة وكيف تفكك الطبقات اللاواعية في حياة المجتمعات ورأسمالها الرمزي من جهة أخرى. وكما هو معروف فإن التحليل النفسي في المجتمعات الغربية لم يعد مجرد أداة لعلاج الأفراد المصابين والمصابات بالرضّات النفسية فقط بل فإنه قد صار يوظف بكثير من النجاح في عمليات تفكيك الشفرات اللاواعية في البنيات الثقافية والفنية والسياسية والاجتماعية، وذلك من أجل فهم الأبعاد الذاتية المضمرة والمكبوتة والمقموعة في تاريخ الأفراد والجماعات، وقصد الكشف عن عمل السلطة والأيديولوجيا اللتين تشكلان اللاوعي وتحركان البشر على نحو موارب أيضا.

نظرا لأهمية ونجاعة التحليل النفسي في بناء الوعي وفي العلاج النفسي للإنسان وللثقافة أيضا، لقد وجدنا وفي أواخر القرن العشرين على نحو لم يسبق له مثيل عددا كبيرا من المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في الدول الغربية الأكثر تصنيعا وتقدما، وقد استعانوا بالجهاز المعرفي النظري والعيادي التحليلي النفسي من أجل الكشف عن العقد النفسية المؤسسة للجوانب اللاعقلانية في التاريخ الإنساني وفي شتى أنماط السلوك والممارسات المنتجة للمعنى وفي صدارتها الأفعال اللاواعية وذلك بهدف فحصها وإدراكها أولا ومعالجتها للتخلص منها ثانيا، وبذلك أصبح اللاوعي البشري حقيقة ثقافية بالدرجة الأولى وحقلا للدراسة والتحليل وصياغة المعرفة.

منذ البداية يطرح المؤلف أنتوني إيستهوب هذا السؤال: ما هو اللاوعي؟ ليجيب عنه هكذا: “وفي الواقع، فإن اللاوعي – إذا كان موجودا – ليس بموضوع مادي يمكن لك أن تضعه في أنبوب وأن تختبره بواسطة الكيمياويات. إن طبيعته تستخرج من تحليل معالم السلوك الإنساني – وخاصة السلوك اللساني – الذي لا يمكن أن يفهم إلا على أساس فرضية مفادها أن هناك اللاوعي..”. في سياق تعريفه للاوعي يروي أنتوني إيستهوب قصة لعالم اللسانيات الروسي المدعو فيكوتسكي والذي قدم مقترحا ” للتمييز بين الخطاب الخارجي والخطاب الداخلي – بين الخطاب الخارجي المعلن عنه، وبين ذلك “الصوت” الذي يتحرك بداخل رأسي عندما لا أتكلم مع أي أحد “. إن العالم فيكوتسكي ” لا يؤمن أنَّ الخطاب الداخلي ليس ببساطة الخطاب الخارجي الذي تم استدخاله، وبالأحرى فإنّ للخطاب الداخلي قوانينه الخاصة به “. وهنا يرى إيستهوب أن في وسعنا رصد مشكل معرفي في فرضية عالم اللسانيات الروسي. وبهذا الخصوص يلاحظ بأننا: ” نعرف فقط الخطاب الداخلي للآخرين بواسطة ما يقولونه لنا عن أنفسهم”، أي من خلال خطابهم الخارجي، وأن ” هذا الأخير ليس بالخطاب الداخلي على الإطلاق”، لأن الخطاب الداخلي لا معنى له إذا لم نترجمه إلى خطاب خارجي وبعبارة أخرى فإننا لا نعرف أبدا ما يقوله إنسان ما في نفسه ولنفسه ما لم يضع هذا المونولوج في خطاب واضح يعلن أمامنا من خلاله وبواسطته نص ذلك الكلام الداخلي. هناك إذن تمايز بين الخطاب الداخلي وبين اللاوعي، فاللاوعي مكوّن من المكبوتات، ومعالمه تدرك بإدراك معالم المقموع والمكبوت، بعد استخراجها من الطبقات المعتمة في اللاوعي البشري. وأن هذا ” اللاوعي يتكلم من خلال الأعراض، والآثار، والهوّامات، والانقطاعات، والأحلام، والنكتة، والانزلاقات اللفظية في الحياة اليومية، والأعمال الأدبية والفنية”، أما الخطاب الداخلي فليس مشكّلا من المكبوتات وإنما هي ظاهرة نفسية عادية كأن يتحدث الإنسان إلى نفسه، أو كأن يتخيل شخصا ما يوجه له الحديث.