مصريات: هلال رمضان فى سيدنا الحسين

يوسف القعيد -

قلت لنجيب محفوظ لماذا يقل ظهور شهر رمضان فى الأعمال الروائية والقصصية؟ هل ينظر له المبدعون باعتباره شهر مناسبة – وإن كانت دينية ولها قداستها – وبالتالي لا يحب المبدع الروائي الاقتراب منه حتى لا يقال عما يكتبه أنه من أدب المناسبات؟

قال: ربما كان هو السبب من قلة ظهور هذا الشهر الكريم فى الأعمال الروائية والقصصية مع أنها حساسية لا مبرر لها. لأن رمضان جزء من شهور السنة الهجرية. قلت له: معظم رواياتك الأولى التي تنتمي إلى المرحلة الواقعية السابقة على الثلاثية، تدور في حي الحسين ومنطقة الجمالية، وهي حي ديني إن كان التعبير صحيحاً.

قال لي: هذا صحيح تماماً. والأماكن موجودة في هذه الأعمال بأسمائها التي نعرفها بها في أرض الواقع.

سألته: ورمضان هل له حضور قوي فى هذه الأماكن؟

كأن ما قاله لي مفاجأة: فى روايتي خان الخليلى وصف دقيق لشهر رمضان وطقوسه داخل الأسرة المصرية. وهذه الرواية تدور أحداثها فى زمن الحرب العالمية الثانية. ولذلك فإن القضية الأولى التي تواجه الأسرة، أسرة أحمد عاكف. هل يستجيبون لمتطلبات رمضان أم يخضعون لظروف التقشف التي فرضتها الحرب عليهم، والكلام يدور حول التموين وموائد رمضان العامرة بما لذ وطاب.

سألته: أين يقع هذا في الرواية؟

قال لي: عندما تقرأ ستصل إلى مواقع رمضان في الرواية.

وقرأت. ووجدت الفصل التاسع من النص مكرسا للأيام السابقة على مجيء شهر رمضان. إنه يبدأ هكذا.

- واقترب رمضان فلم يعد يفصل بين هلاله وبين الطلوع سوى أيام قلائل، ولكن رمضان لا يأتي على غرة أبداً، وتسبقه عادة أهبة تليق بمكانته المقدسة، ولم تغفل أم أحمد عن ذلك – وكانت فى الواقع المسؤولة الأولى عن جلال الشهر وجماله – فجعلت منه يوماً حديث الأسرة قائلة إنه شهر له حقوقه كما له واجباته، وكان قولها موجهاً لأحمد فأدرك مغزاه وقال مدافعاً عن نفسه: رمضان له حقوقه ما في ذلك من شك ولكن الحرب ضرورة قاسية جارت على جميع الحقوق!

فقالت الأم بلهجة دلت على عدم الارتياح: لا قطع الله لنا من عادة؟

فاستيقظ بخلة وقال بشيء من الحدة: ليمض رمضان كما مضى غيره من الشهور، وسنعوض ما فاتنا منه فيما يقتل من أيام السلم!

- والنقل والكنافة والقطايف؟!

ووقعت هذه الأسماء من نفسه موقعاً ساحراً – على استيائه – لالشتهائها فحسب. ولكن لما دعته من ذكريات الشهر المحبوب وعهود الصبا خاصة، بيد أن الذكريات الحنونة لم تغن عن حقيقة الغلاء الواقعة، ولم تلطف من حدة حرصه، فقال بلهجة حازمة رغم تحرك الحنان في قلبه: لندع الكماليات فى ظروفنا الحاضرة القاسية ولندع الله الكريم أن يعيننا على توفير ضرورات الحياة.

وأصغى الوالد باهتمام إلى أقوال ابنه وإن تظاهر بعدم الاكتراث، ومال إلى تأييد الأم فيما تقول، ولكن شجاعته لم تؤته فلما صاغ الابن رأيه فى تلك اللهجة الحازمة، قال الوالد بصوت هادئ: ولا تغل يدك إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط.

وأدرك أحمد أن أباه من حزب أمه، ولم يسعه أن يواجهه بمثل صراحته فى مخاطبة أمه، لتعوده مهابته منذ نعومة أظافره، وأشفق – كما أشفق دائماً – من أن يعرض عن يده إذا امتدت له بطلب بعد أن صادر أكبر اعتماده عليه، فسكت مرتبكاً متحيراً حتى قال عاكف أفندى أحمد الأب: حسبنا قليلاً من الصنوبر والزبيب لضرورتهما في الحشو، ونصف لفة قمر الدين لتغيير الريق، ولنقنع من الكنافة بمرة واحدة، ومن القطائف – وهذه لا تقلى في السمن – بمرتين، وليس هذا عليك بكثير.

فهاله الأمر، وأيقن أنه سينفق هذا الشهر ما اعتاد توفيره كل شهر من النقود القلائل، ربما أجبر على سحب مبلغ آخر من صندوق التوفير، الأمر الذي ينغص عليه صفوة. ثم ذكر شيئاً آخر لا يقل خطورة عن الكنافة والنقل فقال: واللحوم؟!

فقالت أمه بما لها عليه من دالة: سمحت الحكومة ببيع اللحوم طوال الشهر الكريم، وما ذلك إلا لأن قطعة اللحم حقيقة بأن تسند قلب الصائم المتهالك!

فقال أحمد معترضاً: – ولكن ميزانيتنا أصغر من أن تقوم بابتياع رطل لحم كل يوم مع الحاجيات الأخرى!

فقال الولد مستعيناً بقليل من الدهاء: صدقت والأفضل أن نمتنع عن اللحوم مرة كل ثلاثة أيام.

وانشغلت الأم فى الأيام الباقية بتهيئة المطبخ، وتبييض الأواني وتخزين ما تيسر من النقل والسكر والبصل والتوابل. وكان لمقدم رمضان فى نفسها فرحة وسرور، رمضان شهر المطبخ كما أنه شهر الصيام – أو لأنه شهر الصيام – وأجمل من هذا أنه شهر الليالي الساهرة، والزيارات الممتعة، حيث تدار الأحاديث على قزقزة اللب والجوز والفستق. ومن حسن الحظ أن رمضان وافق ذاك العام شهر أكتوبر، وهو شهر معتدل، وغالباً ما يصفو جوه ويطيب فيلذ فيه السهر حتى يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض من الفجر.

وجاء مساء الرؤية وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون، وعند وقت العشاء أضاءت مئذنة مسجد الحسين إيذاناً بشهود الرؤية – وقد اجتزأوا بالإضاءة عن إطلاق المدافع لظروف الطوارئ – وازدانت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياء لآلئ، فطاف بالحي وما حوله جماعات مطبلة هاتفة “صيام صيام كما أمر قاضي الإسلام” فقابلتها الغلمان بالهتاف والبنات بالزغاريد، وشاع السرور في الحي كأنما حمله الهواء الساري، فلم يملك أحمد عاكف أن يقول: أين من رمضان شارع قمر هذا الرمضان البهيج؟.

فابتسم والده وقال: وماذا رأيت مما رأيت يا غلام؟!… أشهدت رمضان فى حيِّنا الجديد هذا قبل اندلاع الحرب؟… إنه النور والسرور، إنه الليل المنير اليقظان، إنه الليل العامر بالسمار والمنشدين واللهو البريء، وفى أيام الفتوة والصحة كنت أسري قبيل السحور بساعة في جمع من الإخوان من السكاكيني إلى حينا هذا نتسحر كوارع ولحم الرأس وندخن البوري في مقهى سيدنا الحسين إلى آذان الشيخ علي محمود ثم نعود مع الصباح الباكر.

فسأله أحمد: متى كان ذلك؟

فقال الرجل بلا جهد: وأنت في العاشرة!

آه… تلك الأيام العذاب، أيام السرور والمرح والتدليل. لقد اتفق له ولوالده عهد واحد يبكيانه معاً. ومضى أحمد ذاك المساء – كعادته الجديدة! – إلى مقهى الزهرة، وقد استسلم لهذه العادة الجديدة التي استأثرت بنصف الوقت المخصص للمطالعة، ووجد في المعاشرة لذة ليست دون لذة القراءة والعزلة. واجتمع بالصحاب الذين أخذ يألفهم ويألفونه. ودار الحديث عن سهرات رمضان وكيف يقضونها فقال عباس شفة – زوج معشوقة الأزواج – بصوته المبحوح: لا تتبعوا أنفسكم في التفكير فلنا في سهرات رمضان الماضية أسوة. نجيء إلى قهوتنا بعد الفطار ونسمر بها حتى منتصف الليل ثم ننتقل إلى “هناك” لنواصل سهرتنا بالسحور. وتنبه أحمد إلى “هناك” هذه وتساءل ترى هل يستبيحون المنكر فى شهر التوبة؟! على أن سبيله كان واضحاً فسيلبث بينهم ما لبثوا فى المقهى ثم يعود إلى بيته فيطالع حتى السحور وهكذا حتى يختم الشهر.