السنة والتشريع: التابعين وحمايتهم وحفظهم لها

إن التابعين هم أقرب الناس إلى الصحابة من حيث الاقتداء والاهتداء، والتدين والورع، والعلم والاجتهاد، والحرص الصادق على حماية الدين، واستشعار المسؤولية الملقاة على عواتقهم في ذلك وإدراك الأمانة العظمى التي ينبغي عليهم أداؤها، فساروا على خطى الصحابة في جميع ما تقدم تعلما وتعليما وتثبتا وفحصا واحتياطا للسنة المطهرة.

ويقول الدكتور الحسين بن محمد شواط في كتابه «حجية السنة وتاريخها»: لقد توسعت رقعة البلاد الإسلامية في هذا العهد، وكثر عدد الداخلين للإسلام من أهل الديانات الأخرى كاليهود والنصارى، كما كثر عدد الداخلين للإسلام من أهل الأجناس الأخرى كالفرس والروم وغيرهم، وكان لكل هؤلاء ثقافاتهم ومعتقداتهم، وكان هؤلاء الداخلون للإسلام فريقين من حيث الجملة: فريق دخل الإسلام بصدق وإخلاص، وهم النسبة الغالبة بحمد الله.

وفريق دخل الإسلام لإفساده وتخريبه من داخله، وهم أقلية، ومن أساليبهم في ذلك الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ومزج السنة بما ليس منها لإدخال معتقدات باطلة وأفكار خاطئة ليست من دين الله في شيء كما فعل عبد الله بن سبأ اليهودي وطائفته، ومن هنا برزت الحاجة الملحة إلى مزيد من التيقظ من قبل أهل العلم لحماية السنة من التغيير والتحريف، ولرد كيد الأعداء في نحورهم وصيانة السنة من شرورهم حتى تبقى صافيا كما صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد هيأ الله لهذه المهمة السامية علماء التابعين، فقاموا بها خير قيام، ووجدوا في جهود الصحابة في ذلك نبراسا يضيء لهم الطريق، فاستفادوا من ذلك المنهج وطوروه لمواجهة مستجدات عصرهم.

وكانت عاطفة التابعين جياشة بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، وحب الصحابة الذين نقلوا إليهم تعاليم هذا الدين، فتأسى بهم التابعون في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة سنته، وتأثروا بهم في ذلك، فكانوا قدوة وأساتذة لهم، تعلموا منهم العلم والعمل والأدب، وتلقوا عنهم الحديث وفقهه، وسألوهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم جميعها، وحفظوها وعملوا بها وحموها وبلغوا من وراءهم.

وكانوا يقبلون بشغف عظيم على طلب الحديث ثم يتذاكرونه فيما بينهم ليحفظوه ويحافظوا على لفظه كما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، قال عطاء: (كنا عند جابر بن عبد الله فيحدثنا، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه، فكان أبو الزبير من أحفظنا حديثا).

وقال إسماعيل عن أبي خالد: (كان الشعبي وأبو الضحى وإبراهيم النخعي وأصحابنا يجتمعون في المسجد فيتذاكرون الحديث، فإذا جاءهم شيء ليس فيه رواية رموا أبصارهم إلى إبراهيم).

وقد تتلمذ على كل صحابي عدة مئات بل أحيانا عدة آلاف يحملون علمه ويعملون بتوجيهاته، قال أنس بن سيرين: (قدمت الكوفة قبل الجماجم فرأيت أربعة آلاف يطلبون الحديث).

وفي عهد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي كان المسجد الحرام يغص بطلاب العلم من التابعين، فسأل عن شيوخ هذه الحلقات فكان منهم: عطاء وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران، ومكحول ومجاهد وغيرهم، فحث أبناء قريش على طلب العلم والمحافظة عليه.

ويؤكد صديق عبد العظيم في كتابه: «دراسات في السنة النبوية»، أن التابعين تفاوتوا في رواية الحديث قلة وكثرة كما هو الحال على عهد الصحابة، فمنهم مكثرون، مثل عامر الشعبي، وشعبة بن الحجاج، وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير، وغيرهم. ومنهم المقل، مثل أبي قلابة، قال أبو خالد الحذاء: كنا نأتي أبا قلابة، فإذا حدثنا بثلاثة أحاديث قال: قد أكثرت.

وعندما ظهرت الفتن،وبرزت الفرق المنحرفة، وبدأت ظاهرة الوضع في الحديث كان التابعون قد جعلوا جملة من القوانين والضوابط المتعلقة بتحمل السنة وأدائها، ومواصفات رواتها، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

أولا: قال محمد بن سيرين: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم).

ثانيا: قال عبد الله بن ذكوان: (أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمونون ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله)، أي إنهم ليسوا من المشتغلين بعلم الحديث المتقنين له، وإن كانوا عدولا أمناء.

ثالثا:قال أيوب السختياني: (أرأيت رجلا لا تأمنه على دينه فكيف تأمنه على الحديث).

رابعا: قال شعبة بن الحجاج: (خذوا العلم عن المشهورين)، وقال: (التدليس في الحديث أشد من الزنا).

خامسا: قال عقبة بن نافع: (لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عن ثقة).

وعن مثل هؤلاء قال الحافظ الخطيب البغدادي: «وقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين، وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين، فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى، قبلوا شريعته قولا وفعلا، وحرسوا سنته حفظا ونقلا، حتى ثبتوا بذلك أصلها، وكانوا أحق بها وأهلها، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفاظ لأركانها، والقرامون بأمرها وشأنها، إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون، أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون).