د. ناصر الندابي -
إن استغلال الوقت من الحكمة، والحكمة هي استغلال الوقت، فالحكيم من أحسن في كيفية قضاء وقته، فالعمر سريع، وما مضى لن يعود، (ولا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاه). حكماء أولئك الذين يعرفون كيف يعمرون أوقاتهم، حكماء أولئك الذين لا يضيعون دقيقة من عمرهم إلا فيما ينفع، وأكثر هؤلاء هم العلماء، ولعمري لا يوجد عالم بلغ منزلة في العلم إلا وكان حكيما في استغلال وقته.
يقول الشيخ العلامة محمد بن راشد الغاربي: اختار كثير من علماء السلف، -بحسب ما رأينا في تراجمهم- أن يأكلوا الطعام الذي لا يحتاج إلى هضم كثير، حتى لا تذهب أوقاتهم سدى في مضغ الطعام إن كان يحتاج إلى مضغ كثير، فكانوا يعمدون إلى الأطعمة التي تهضم بسرعة، ولا يعمدون إلى الأطعمة التي تحتاج إلى هضم اكثر لأن ذلك يؤدي إلى ضياع أوقاتهم». فلله درهم إذ عرفوا قيمة الوقت فاحسنوا استغلاله.
وما يروى في هذا الجانب: إن العلامة درويش بن جمعة المحروقي كان حريصاً على استغلال الوقت، لأجل القراءة والمطالعة، فيحكى عنه: إنه في بعض الأحيان يزجر (يستخرج الماء من البئرعن طريق سحبها بالثور) على ثور لسقي مزرعته، وفي أثناء قيامه بالزجر، يضع كتابا أسفل الخب (الحفرة التي ينزل فيها الثور أثناء الزكر)، فإذا وصلت الدلو في قعر البئر، استغل تلك الدقائق فيفتح الكتاب، ويقرأ منه أسطرا، حتى يمتلئ الدلو، وإذا كان هذا عمله أثناء الزجر من البئر، فما ظنك به في الأوقات الأخرى. ومن أبزر علماء عمان في عصرنا الحاضر الذي يعد نموذجاً في استغلال الوقت: الشيخ العلامة المربي حمود بن حميد الصوافي، الذي تجده يستقبل أيامه استقبال الضنين للثروة الرائعة ، ولا يفرط في ثوانيها فضلاً عن دقائقها وساعاتها. فلا تكاد تند منه لحظة من الزمن بدون استغلال، وكثيراً ما يردد مقولة: «من علامات المقت إضاعة الوقت»، فهو إما أن يسعى في قضاء حاجة للمسلمين أو يقرأ له كتاب، أو يكون في حلقة تعليم، وإما على مائدة طعام بها غداء روحي وجسدي، أو منشغلاً بالإفتاء، أو ماشياً على الأقدام بصحبة ناس يناقشونه وإّذا صمتوا انشغل بالأذكار والمحفوظات. يقول عنه أحد تلاميذه: (في ذات يوم كان الشيخ ذاهباً إلى جزيرة مصيرة برفقة مجموعة من الطلبة وفي المركب أمر بالقراءة من كتاب ، ومع الاهتزاز الشديد تعذر على القارئ الاستمرار فطلب الشيخ من مرافقيه أن يسمعوا له شيئاً من محفوظاتهم حتى لا يضيع منه ذلك الوقت).