السنة والتشريع – أسباب عدم تدوين السنة في العهد النبوي

لا يختلف اثنان من كتاب السيرة وعلماء السنة وجماهير المسلمين في أن القرآن الكريم قد لقي من عناية الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة ما جعله محفوظاً في الصدورومكتوباً في الرقاع والسعف والحجارة وغيرها، حتى إذا توفي رسول الله كان القرآن محفوظاً مرتباً لا ينقصه إلا جمعه في مصحف واحد.

ويذكر الدكتور مصطفى السباعي في كتابه «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي» أن السنة لم يكن شأنها كذلك، رغم أنها مصدر مهم من مصادر التشريع في عهد الرسول، ولا يختلف أحد في أنها لم تدون تدويناً رسمياً كما دون القرآن، ولعل مرجع ذلك إلى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عاش بين الصحابة ثلاثاً وعشرين سنة، فكان تدوين كلماته وأعماله ومعاملاته تدويناً محفوظاً في الصحف والرقاع من العسر بمكان، لما يحتاج ذلك إلى تفرغ أناس كثيرين من الصحابة لهذا العمل الشاق، ومن المعلوم أن الكاتبين كانوا من القلة في حياة الرسول بحيث يعدون بالأصابع، وما دام القرآن، هو المصدر الأساسي الأول للتشريع، والمعجزة الخالدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فليتوفر هؤلاء الكتاب على كتابته دون غيره من السنة، حتى يؤدوه لمن بعدهم محرراً مضبوطاً تاماً لم ينقص منه حرف واحد.

وشيء آخر: أن العرب لأميتهم كانوا يعتمدون على ذاكرتهم وحدها فيما يودون حفظه واستظهاره، فالتوفر على حفظ القرآن مع نزوله منجماً على آيات وسور صغيرة، ميسور لهم وداعية إلى استذكاره والاحتفاظ به في صدورهم، فلو دونت السنة كما دون القرآن، وهي واسعة كثيرة النواحي شاملة لأعمال الرسول التشريعية وأقواله منذ بدء رسالته إلى أن لحق بربه، للزم إكبابهم على حفظ السنة مع حفظ القرآن، وفيه من الحرج ما فيه، عدا خوف اختلاط بعض أقوال النبي الموجزة الحكيمة بالقرآن سهوا من غير عمد، وذلك خطر على كتاب الله يفتح باب الشك فيه لأعداء الإسلام، مما يتخذونه ثغرة ينفذون منها إلى المسلمين لحملهم على التحلل من أحكامه والتفلت من سلطانه، كل ذلك وغيره –مما توسع العلماء في بيانه– من أسرارعدم تدوين السنة في عهد الرسول، وبهذا نفهم سرالنهي عن كتابتها الوارد في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه).

وهنا لا يمنع أن يكون قد كتب في عصر الرسول شيء من السنة لا على سبيل التدوين الرسمي كما كان يدون القرآن، وهناك آثار صحيحة تدل على أنه قد وقع كتابة شيء من السنة في العصر النبوي. فقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب العلم عن ابي هريرة: أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فركب راحلته فخطب فقال: إن الله حبس عن مكة القتل –أو الفيل شك من البخاري– وسلط عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون، وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنها أحلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد، فمن قتل له قتيل فهو بخيرالنظرين: إما أن يعقل وإما أن يقاد أهل القتيل»، فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «اكتبوا لأبي شاة».

كما ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى ملوك عصره وأمراء جزيرة العرب كتبا يدعوهم فيها إلى الإسلام وكان ينفذ مع بعض أمراء سراياه كتبا ويأمرهم ألا يقرأوها إلا بعد أن يجاوزوا موضعاً معيناً.

وأوضح ابن عبد البر في كتاب «جامع بيان العلم» أنه ثبت أن بعض الصحابة كانت لهم صحف يدونون فيها بعض ما سمعوه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كصحيفة عبدالله بن عمرو بن العاص التي كان يسميها بالصادقة، فقد أخرج أحمد والبيهقي في المدخل عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، قال: «ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني إلا عبدالله بن عمرو، فقد كان يكتب ولا أكتب»، وكتابة عبد الله بن عمرو استرعت أنظار بعض الصحابة الذين قالوا: إنك تكتب عن رسول الله كل ما يقول، ورسول الله قد يغضب فيقول مالا يتخذ شرعا عاما، فرجع ابن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (أكتب عني، فوالذي نفسي بيده ما خرج من فمي إلا الحق).

وثبت أنه كان عند علي (رضي الله عنه) صحيفة فيها أحكام الدية على العاقلة وغيرها، كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لبعض عماله كتبا حددت فيها مقادير الزكاة في الإبل والغنم.


وقد اختلفت العلماء في التوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة وبين هذه الآثار التي تدل على الإذن بها، فالأكثرون على أن النهي منسوخ بالإذن، ومن قائل بأن النهي خاص بمن لا يؤمن عليه الغلط والخلط بين القرآن والسنة، أما الإذن فهو خاص بمن أمن عليه ذلك، وأعتقد أنه ليس هنالك تعارض حقيقي بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن فهو سماح بتدوين نصوص من السنة لظروف وملابسات خاصة، أو سماح لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون السنة لأنفسهم والتأمل في نص حديث النهي قد يؤيد هذا الفهم، إذ جاء عاما مخاطبا فيه الصحابة جميعا. لا يقال: إن ذلك يقتضي أن يكون الحكم باقياً على الحرمة ما دام السماح لظروف خاصة ولأشخاص معينين، لأننا نقول: إن سماح الرسول لعبد الله بن عمرو بكتابة صحيفته واستمراره في الكتابة حتى وفاة الرسول، دليل على أن الكتابة مسموح بها في نظر الرسول إذا لم يكن تدوينا عاما كالقرآن، ويؤكد الإذن بالكتابة، ما جاء في البخاري عن ابن عباس: أنه لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» ولكن عمر حال دون ذلك بحجة أن النبي قد غلبه الوجع، وهذا مما يؤيد الرأي القائل بأن آخر الأمرين كان هو الإذن، لا كما ذهب إليه المرحوم رشيد رضا من أن الإذن وقع أولا ثم نسخ بالنهي.