واشنطن بوست – ترجمة قاسم مكي -
إيشان ذرور -
أكدت داعش، الجماعة السنية الجهادية التي يسيطر مقاتلوها الآن على مساحة واسعة من الأراضي في سوريا والعراق، على صعودها المدهش مؤخرا بإعلانها قيام دولة إسلامية في شكل « خلافة» جديدة تفرض على المسلمين في كل مكان الإذعان لها.
وجاء في بيان للجماعة نشر على الإنترنت بلغات مختلفة «ها هي راية الدولة الاسلامية، راية التوحيد عالية خفاقة مرفرفة تضرب بظلالها من حلب الى ديالا، « مشيرا بذلك إلى مناطق (وجودها) في سوريا والعراق. والخليفة الجديد هو زعيم المسلحين المجهول الهوية أبو بكر البغدادي. لقد سبق لزملائي أن دققوا فيما يعنيه هذا الإعلان لداعش (والتي يشار إليها أيضا باسم الدولة الإسلامية أو «دا».) وهي جماعة منشقة عن القاعدة وعلى خلاف مع «أمِّها» المتطرفة. إن استعادة نظام الخلافة هو الهدف المعلن للعديد من المنظمات الجهادية المتلهفة إلى إسقاط الدولة الوطنية الذي تم استزراعها في الشرق الأوسط عقب الحرب العالمية الأولى. وذُكِرَ أن مقاتلي داعش جرفوا المتاريس الترابية المقامة على الحدود العراقية السورية أثناء هجومهم على العراق أوائل الشهر الماضي. وزعم بيان نشر على الإنترنت بجانب صورةِ جرَّافة أن الجماعة تقوِّض خط حدود سايكس- بيكو الذي يفصل بين البلدين اللذين تعتبرهما داعش كيانين زائفين من صنع القوى الاستعمارية الأوروبية. وذكر المؤرخ ماليس روثفين في مقال بنيويورك ريفيو اوف بووكس أن « هذا العمل الرمزي من قبل مقاتلي داعش ضد تشكيل استعماري مرَّ عليه قرن من الزمان يظهر إلى أي مدى تَغَذَّت واحدة من أكثر الجماعات أصولية في الشرق الأوسط بأسطورة براءة حقبة ما قبل الاستعمار. وتشير عبارة « حدود سايكس- بيكو» إلى اتفاق سري عقد في عام 1916 بين دبلوماسيين كبيرين من إنجلترا وفرنسا هما السير مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو. وقد تطلع البلدان إلى الفوز بأراضي الإمبراطورية العثمانية المتداعية (التي كانت عدوة لهما في الحرب العالمية الأولى.) واتفقا بجانب روسيا على تقسيم هذه الأراضي إلى مناطق نفوذ وسيطرة. وكان هذا يخالف اتفاقات أكثر علنية عقدت مع الزعامات العربية وقتها وحصلت بموجبها على ضمانات بإنشاء دولة عربية مستقلة عاصمتها دمشق في مقابل دعم هذه القوى الأوروبية ضد العثمانيين. وما أعقب الحرب العالمية الثانية كان مصدرا لتظلمات مبررة في العالم العربي. ففي حين استجاب الحلفاء المنتصرون للتطلعات الوطنية للرومانيين والبلغار واليونانيين والأوروبيين الشرقيين الآخرين الذين عاشوا في السابق تحت نير العثمانيين إلا أنهم لم يُبدوا مثل هذا اللطف تجاه العرب الذين كانوا يسعون وراء نيل استقلالهم. وسرعان ما أرسل الفرنسيون جنودا إلى سوريا وقمعوا في وحشية القوميين العرب المنشقين. كما احتفظ البريطانيون بسيطرتهم على الحقول النفطية للعراق الحالي وحولوا ميناء البصرة إلى محطة استراتيجية على الطريق البحري إلى ممتلكاتهم الاستعمارية في الهند. وخلَّف هذا التعامل المزدوج من قبل البريطانيين إحباطا مريرا علي أتباعهم المستعربين من أمثال ت. إ. لورنس الذي ساهم في تدبير الانتفاضات العربية. ولم تعكس البلدان التي ظهرت في العقود اللاحقة (وبعد حرب عالمية أخرى) مباشرةً الحدودَ التي رسمها سايكس وبيكو. ولكنها حملت أثر التدخل الأوروبي الذي تمثل في التقسيم الطائفي لسوريا ولبنان وإنشاء شرق الأردن وتأسيس دولة إسرائيل الذي أوجد نزاعا عميقا. وقد ظل هذا الإرث يلقي بظلاله دوما على السياسة العاصفة في الشرق الأوسط وذلك على نحو شبيه بأثر معتقد الخطيئة الأصلية(لدي المسيحيين.) وفي الشهور الأخيرة ألمح العديد من المعلقين إلى تفكك توافق سايكس_ بيكو مع تفتت الحدود المشتركة بسبب الحرب الأهلية والأزمة السياسية في سوريا والعراق. وذلك ما قاد إلى جدل جديد حول تقسيم دول المنطقة. وربما أن داعش هي أسعد من يتبنى وينشر مثل هذه السردية (للماضي)، جاعلة من نفسها (البطل) الذي سينتقم من (مظالم) التاريخ والوريث القادم للخلافة بعد الإمبراطورية العثمانية. ولكن (هُنَا) تصبح هذه السردية مثيرة للارتياب. فعلى مدى قرون بسط العثمانيون نفوذهم على إمبراطورية شاسعة ومعقدة ومتنوعة صارت موطنا للعديد من الأعراق والمعتقدات. وعلى الرغم من المظالم العديدة لحكمها إلا أنها اشتهرت بالتسامح. هذا فيما يقوم المتزمتون التطهريون والدمويون الذين يثيرون الشغب الآن في سوريا والعراق بتدنيس الأضرحة وتدمير الصلبان وإعدام غير السنيين. وهم بهذه الصفات ما كان يمكن أن يجدوا لهم مكانا وسط العثمانيين. إلى ذلك فإن الحدود «المصطنعة» بين العراق وسوريا أوجدها الحكم العثماني الذي قسم الأراضي التي كانت تدعي في السابق «بلاد الرافدين» إلى ثلاث « ولايات» عثمانية هي البصرة وبغداد والموصل. وتشير الكاتبة رولا خلف في مقال بالفاينانشال تايمز إلى أنه من المهم لنا تذكُّر مثل هذه الحقائق الدقيقة قبل أن نومئ بأصابعنا إلى الخيانة والغدر للأوروبيين. لقد كان اسمَا (سوريا والعراق) يشيران إلى كيانين جغرافيين قبل فترة طويلة من انهيار الإمبراطورية العثمانية.
وتحت الانتدابين البريطاني والفرنسي كان الاحتجاجات حول الحدود تتعلق أساسا بتقسيم سوريا الكبرى إلى دويلات صغيرة مع إلحاق جزء أيضا بلبنان. ولم تعش الكيانات المنفصلة لفترة طويلة. فقد توحدت مع دمشق مشكِّلة دولة سوريَّة مستقلة. إن توجيه اللوم إلى سايكس- بيكو يعني تجاهل حقيقة أن الوطنية الجغرافية (أو المناطقية) متجذرة بعمق في الدول العربية اليوم على الرغم من الاندلاع المتكرر للعنف الطائفي.
وتشير رولا خلف إلى أن المشكلة الحقيقية هي « الفشل المأساوي للحكومات التي أعقبت الاستعمار في بناء دول تتسع لجميع سكانها.» فرسم خطوط على الخارطة قبل قرن من الزمان لايجعل سفك الدم القبيح الذي نشهده الآن شيئا حتميا. كما ترى خلف أن الحديث المضجر عن(اتفاق) سايكس- بيكو يخفي أحداثا أقرب إلينا كثيرا من تاريخ ذلك الاتفاق. وهي أحداث أعادت بطريقتها الخاصة رسم الخارطة مثل الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003. إن ذلك الحدث(الغزو الأمريكي) وليس انهيار آخر خلافة (الخلافة العثمانية) هو ما يفسر لنا على الأرجح لماذا أننا نشهد ظهور واحدة أخرى جديدة.