بدر العبري -
تحدثنا في الحلقة السابقة عن الجزء الأول من الآية: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)، واليوم –بإذن الله تعالى– نواصل الحديث عن الجزء التالي: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).
ولقد رأينا في الحلقة الماضية معنى القرب الإلهي، وسنجد هذا الجزء يفسر ويخصص هذا القرب، حيث يبين أنّ القرب الإلهي متجسد في الإجابة الإلهية لدعوة وتضرع عبده له، فالقرب هنا قرب رحمة وعطف وإجابة، وهو أخص أنواع القرب.
كما رأينا في الحلقة الماضية التجسيد الحضاري من خلال القرب الإلهي، وسنجد في هذا الجزء التجسيد من خلال الإجابة الإلهية: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.
فالقرب الإلهي ليس قربًا تفاخريًا في حدّ ذاته، بقدر ما كان قربًا عمليًا إيجابيًا، يبعث في نفوس العباد الأمل، وينزل فيهم السكينة، ويعمهم بذلك الأمن، فكما يعلمون عظمة الله تعالى وجبروته؛ في الوقت نفسه يدركون رحمته وجلالته وكرمه، فهو يقربهم إليه كلما ابتعدوا، ويفتح لهم باب الأمل مهما انحرفوا.
ومن أخص أنواع العلاقة بين الخالق والمخلوق الدعاء والتضرع، ولذا قيل الدعاء مخ العبادة، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية الدعاء فقال سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، فالله تعالى هنا ربط الاستجابة بالدعاء مباشرة، فكأنّ النتيجة واحدة، وبين أنّ الدعاء عبادة، والاستكبار عنه استكبار في العبادة.
وقد ضرب الله تعالى نماذج لأنبيائه وهم يتضرعون ربهم، بداية من آدم عليه الصلاة والسلام: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وأسهب من تضرع نوح عليه السلام ودعوته، وكذا يونس وزكريا وغيرهم؛ لأنّ الله كما أخبر عن نفسه على لسان نبيه إبراهيم بأنّه سميع الدعاء: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
ولو تحدثنا عن الدعاء في القرآن لطال بنا المقام، ولكن ما أشرنا إليه كفاية، والحاصل أنّ الله تعالى هنا يريد أن يجسد التقارب بين العبد والخالق، فالأول تضرع والثاني رحمة، والأول توسل والثاني هبة وعطف، فالله على جلالته قريب، والمخلوق عبد طائع لخالقه سبحانه وتعالى.
هذا التجسيد والقرب ينبغي أن يظهر على الإنسان في كافة شؤون حياته، ليكون مرتبطًا بخالقه سبحانه، في كلّ شيء، وذكر هذا العقد الفريد من القرب والإجابة الإلهية في عقد آيات الصيام ليكون دربة حضارية لحياة الإنسان وخضوعه لخالقه سبحانه وتعالى طول حياته.
فالإنسان مهما علا وارتفع فهو بحاجة إلى الله سبحانه وتعالى، ومهما ابتعد عن خالقه يجد الخالق قريبا منه، ولذا يجسد حال الخالق سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ).
وعليه يكون العبد دائما حاله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
وهنا الله تعالى يقرر الطبيعة الإنسانية فهي طبيعة ترتكب الخطأ، وهذا ليس عيبًا إذا ما تبعه تصحيح وإصلاح، وإنما العيب الاستمرار على الخطأ، إما عن غفلة أو مكابرة.
وفي هذا أيضا تربية حضارية مع الفرد والمجتمع والأمة، أما مع الفرد فلا ييأس الإنسان من تصحيح مساره، وتعديل اعوجاجه، ولو ارتكب من الأخطاء ما ارتكب، فالعودة ليست عيبًا، والإصلاح ليس ذما بقدر ما يكون رفعة للإنسان، وهو ينظر إلى خالقه قبل أن ينظر إلى المخلوقين وكلامهم.
وأمّا كونه تربية حضارية للمجتمع فعلى المجتمع أن ينظر إلى أفراده بعين البشرية كما ينظر إليهم بعين الإنسانية، فالإنسانية قيمة مثلى، والبشر بطبعهم الخطأ، فيقبل الخطاء لتحقيق مبدأ الإنسانية فيه.
يروى عن السيد المسيح أنه أتي إليه بامرأة زانية لرجمها حسب الشريعة اليهودية، فقال من كان منكم لم يخطئ فليرجمها، وهذا ما عالجه القرآن في سورة كاملة وهي سورة النور، في آيات نورانية تحفظ سياج المجتمع وكيفية التعامل مع المخطئ. وأمّا مع الأمة أو الدولة بصفة معاصرة فأنها تتعامل مع شعوبها على أساس العدل في الحكم، والإصلاح في التربية، فهذا الذي أخطأ لا تنظر إليه نظرة سوداوية وتلغيه من قاموس مواطنها الصالح بقدر ما تنظر إليه نظرة إصلاحية لتجعله مواطنا صالحا، وعلى هذا ينبغي التعامل مع المساجين في محاولة إصلاحهم وعودتهم إلى المجتمع كبناة يواصلون المسيرة البنائية والإصلاحية للمجتمع كغيرهم.
ونجد هذا الجزء من الآية الكريمة صدّرت بالفعل المضارع أجيب وفيه بيان على الاستمرارية، أي استمرارية الإجابة والرحمة والقبول منه سبحانه وتعالى، وإتيان إذا في قوله: إذا دعان يعطي للإنسان مساحة للتفكير والاختيار الذاتي دون جبر منه سبحانه وتعالى، لأنّ إرادة المرء اختيارية بلا إكراه ولا جبر، وللحديث بقية.