«مَهزلة»

القصة الفائزة بالمركز الأول -

أسماء الشامسية -

يدخُل الأستاذ صالح قاعة المحُاضرة بأنفه المزكِم المحمّر في دشداشة بيضاء مهندمَة تتلاءم وكتفيه العريضين ويبدو متحفّزًا جذلانًا كما لو أنّه تلقّى خبرًا سعيدًا لتوّه، يحمل على ذراعه كتابًا لم يَبنِ عنوانه وملف أوراقٍ وحيدا، في حين هدأت الجَلبَة في القاعة والتزم الحُضور أماكنهم، حيّا وبيّا، ثمّ فتَح الكتاب واستهلّ محاضرته بعبارة قرأها عن الحياة:

«ماذا يمكن أن تكون الحياة؟ ماذا يمكن للّعينة هذه أن تكون؟ليست إلا تمثيليّة أبطالها الفقراء والمتشرذمون والعَجَزة أمثالنا، الآن أفكّر جديًّا في الانسحاب من هذه المهزلة الكبيرة المدعوة.. الحياة « (يُغلق الكتاب ويُعقّب) هكذا يستهلُّ بطل الرواية مقولته وعندما أقول لكم ذلك على لسانه فهو يعرف ما يقول ويعنيه، إذ ما من شيء كما ترون يستحق أن يعيش المرء لأجله وأنتم تفهمون ذلك، يعني تعرفون البقية (يشفطُ ماء أنفه ويتنحنَح)

حسنًا أعزائي الحضور(يخفض نظارته ويطرف بعينه من خلال الزجاج ويركز) إن المأساة التي يمر بها بطل الرواية ليست أمرًا هيّنًا.. أبدا ليست أمرًا هينًا (يقول ذلك بصوت منفعل حاد اللهجة) فلقد تقطعت به السّبل وفقد أهله في الحرب الأهلية وظل مقطّع الأوصال لبقية حياته بل لم تقع في غرامه أي فتاة فيما بعد..يا للمغرورات! هل أدركتم حجم المأساة؟

(يرفع عينيه ويصوّب نظره هذه المرّة خارج زجاج النظارات، يحاول أن يختبرَ مدى تأثر الحضور بسرده)

المؤسف في الأمر هو شماتة أحد الكتاب بالموت، فبطلنا كتب قبل انتحاره مذكرة يسخط فيها ويشتم روائيا متعجرفًا قال: إن الموت بالنسبة له أشبه بامرأة حسناء وفاتنة تناوله يدَها!

هل تعرفون أي نوع من المهازل هذه؟ كيف يسخر منّا جميعًا بهذه الوقاحة وكُلّنا هالكٌ في الموت؟!! (الآن بدأ الأستاذ ينزع عنه مزاج المَرح والوداعة الذي دخل به قبل قليل)

ثم.. ثم أنّه لا يمكن لأحدٍ التصالح مع الموت بهذا الخيال الشاذ والأرعن، تتخيلون الموت كشهوة؟ يا ويلاه يا ويلاه وهو عينه عدوّ الشهوات!

ألا تبًّا للكتّاب كيف يكذبون..ألا تبًّا (ثم ينتبه أنّه انفعل وربما تمادى بالتقريع بعض الشيء فيجسُّ نظرات الحضور الفاغِرة ويلحظ الذهول الذي لا يتوقّف)

حسنًا..معذرة..إنكم تعرفون البقية..تعرفون البقيّة..أن يتخيّل أفّاقٌ الموت بهذا الشذوذ ثم ما عساه يخبركم به؟ أنه قضى أكثر مواعيدهِ حميميّة في باطن الأرض ها؟ (يقفُ من على الكرسي ويصفَق بيدهِ الطاولة في غضب) استغفر الله ما أكثر مَا يكذبون! يا للعَار..عَيْب..ايهِ والله عيْب (لم ينتبه أنه أعادَ السيناريو بعبارةٍ أدَق)

معذرة ولكنني متأثّر.. متأثر بعض الشيء بالكاتب وبقصّته وحانق على كل هؤلاء الناس الذين يستهينون بمشاعرنا الإنسانية (يجلس بهدوء) صدقًا أعزائي ليسَ من الليَاقة أن نكتُب عن المَوت بهذا الاستخفاف في حين أنّنا نهابه وتتصّلب شعيرات أجسادنا لحضوره كلفظة على الورق فما بالكم..ما بالكم..بالله عليكم… (يعجز عن الحديث وتطرف عينيه بشكل خارج عن السيطرة، الآن وقد نَالت من عاطفتهِ الدموع فإنّها لحظة التراجيديا، يسحبُ منديلاً ويمسح دمعة متطرفة على صدغه ثم يتناهى من آخر القاعة تصفيق أحدهم بحرارة سرعان ما يتَتالى ويدوي تصفيقٌ جماعي، يتنهد المُحاضر ويرتاح للتعاطف الحاشد فيحاول اختراق دوي التصفيق بصوت متحشرج، يتجرّع ويعدّل من صوته فيبدو كما من قبل حادّا مزمجرًا.

سأقول لكم أيها الحضور العزيز لقد كنتُ شيوعيًّا من قبل وبسبب كم الحركات اليسارية التي أيّدتُها فقدت وظيفتي كأستاذ جامعي في البلد، والآن أنا مجرد متشائم بائس ماذا عساي أقول لكم؟ فقدت مصدر عيشي وها أنا بقدرة قادر أدعى بينكم وأنا أنا..(يقول في غبطة) وأنا في غاية البهجة، رغم كُل شيء، الطلاق والحبس والطّرد رغم كُل الإخفاقات، أنا هُنا، (ثم كمن يتذكّر أمرًا نسِيَه) أوه صحيح ! الحبس سأروي لكم حبسي أيضًا إن كان ثمّة وقَت فهذه قصة طويلة ومفجعة أمّا الطّلاق ليسَ غريبًا على أحد، ستكبرون ويُحتَمَل أن تتطلقوا.. لا داعي لسرده.. لا داعي لذلك (فجأة يَرق صوته ويثبّت بصرهُ سارحًا وبخفوتٍ وضراعة يهمس: يا لهَا من أيّام، إنكم تذكرونَني بطلاّبي (ثم يعود لسابق حديثه) على أيّة حال حمدًا لله أنّني هٌنا (ويتمتم متحدثًا مع نفسِه) ما زال من يستقبلني (يرفع صوته وكأن من سَمعه) يعني ذلك أنّ الله ما زال يُحبّني.. حمدًا لله مع ذلك لن يفوتني أن أوضح مدى التقارب بين بطل الرواية وبيني (يشفط مجددا ما تبقّى من ماء أنفهِ وبدأ وجهه يستعيد لونه الطبيعي فيما ظلَّ أنفه متضرّجًا وتَابع)

لا أبالغ إن قلتُ أنّ القَدر خطّط لحياة بطلنَا هذا فيما كان ينسجُ لي حكاية مماثلة، لقد تُوفّي بطلنا في نهاية أربعينيّاتهِ وأنا كذلك أشارف على انقضاء عقدي الخامس، قد تسمّونه ظلم، واختيار قدَري عن سبق إصرار وترصّد، وقد يكون كذلك، وأنا واثق أنني أنتظر نهاية البطَل نفسِها، النهاية نفسِها فعلا وفي العُمر ذاته.. قد.. قد أنتَحر! (بدت قسماته أكثر انفعالاً فيما انكمشَ جاجبَاه موشكًا على البكاء مجددا لكنّه رفعهما ونظَر من أسفلهما مسترقًا والتقطَ في عيون الحاضرين ذهولاً تائهًا بينما كان بعضهم يرمي بنظرات فيها من الثبات والبلادة ما يجعل المُحاضر لا يودّ مُتابعة حديثه، لكنّه أكمل بثقة وتصميم كما لو أنّه استسلم للأثر الرتيب لمحاضرته على الحضور) حسنًا… ربّما.. ربّما خلطتم بين قصّتي وقصّة بَطل الرواية، بعيدًا عن التعقيد أعزّائي اعتبروها قصّة واحدة، لا فرق صدقوني لا فرق، يحدث أن ثمة صُدفة كونيّة تَحبِك لشخصين أو ثلاثة أو أكثر المأساة نفسها، أنظروا إلى أنفسكم (فيما بدأت ترتسم ابتسامة ساخرة على وجهه) بالله أنظروا إلى أنفسكم ألستم جميعًا ستموتون؟ من تَحسبون أنفسكم أمام الموت ها؟ أليست حبكة قدرية مشتركة؟ ستموتون جميعًا وستناولكم الفاتنة الحسناء يدها (هُنا انفجَرت ضحكة صاخبة من فمه واحمّرت صفيحة وجهه بشدة ورشَحَت عينيه فيما لم ينبس أحد الحاضرين ببنتِ شفة بل بدَت عيونهم أكثر التماعًا وغورًا وبينما استمرّ هو يقهقه بشدّة بدأ الحاضرون يتبادلون نظرات تُكشّر عن ابتساماتٍ خفيّة، ولقد عنّ لهم أنّه آخذٌ في الضّحكِ بلا انقطاع وهمّوا يطالعون بعضهم بعضَا أكثَر واهتّزت الرؤوس المطأطئة والمتلفّتة في حركة موحّدة انضّمّ إليها كُل من في القاعة، فانفجرت ضحكة وتلتها أخرى سرعان ما نَزلت بالقاعة هستيريَا صُراخ ضاحك حد الثّمالة)

قَرَعَ أحدهُم بَاب القَاعة الضاحكة ولم يسمع أحدهم قرع البَاب ففتحهُ على حين غرّة سرعان ما همَدَت الضّحكات على عَجَل عدَا المحاضر الذي ما زال يستحوذه الضّحك ويتلوّى على جانبيه يكاد أن يسقط بهِ الكرسي لا يحتملُ ثِقلَه، وقفت الأستاذة عند البَاب مشدوهةً فيما أسرع الطُّلاب يتصنّعون الجديّة ويفتحون حقائبهم يخرجون منها دفاترهم وكُتَبَهم ويجلسون راصِنين مستدركين غضَب المعلمة، تقدّمت المعلّمة خُطوات مستغربةً هذا الجّو الدّخيل على قاعة الدّرس، ترمقُ المُحاضِر بنظراتٍ ثاقبَة وتتلجلج : لكن..لكن هذه حصّتي يا أستاذ، لقد قلتُ للطّلاب أنني سأتأخر لدقائق و..(فيما كانت تتكلم اعتدَل في جلسته وسوّى من مصرّه وتحوّل للحظة في سحنةٍ رسميّة مُداهِنة وأصغى، ولمّا كانت تتوقّع منه ردًّا يخُفّفُ عنها شعورها بالارتبَاك انتظر منها هو الآخر أن تُكمل وكأن أحدهما لا يعرف متى عليه أن يتكلم فواصلت بتوتر:

أظن أنّ حلقة مهارات المذاكرة تُقام في الغُرفَة المجاورة (وأشارت بيدها إلى جهة الشرق) لقد وجدُت الطّلاب ينتشرون في الباحة لا أحدَ عندهم..إنّهم..إنّهم في انتظارك..لكن ماذا تفعل هُنا يا أستاذ؟ لعلّك أخطأت القاعة !

ثم أفَاق المحاضر وكأن أحدًا لكزَه للتّو وقال: أوه نعم.. نعم ! فلتعذريني أستاذة، فلتعذريني يبدو أنّني دخلتُ قاعة الصّف الخامس الابتدائي، القاعة الخطأ (ويضحك بخيبة) ها..ها..ها بينما كان عليّ أن أنفّذ الورشة لطلبة الإعدادية، معذرة ! ثم أسرَع يجرّ معه ضحكاتهُ التي كانت لا تزَال تتسلّق قسماتهِ غير شاعرٍ بالإحراج، أمّا المعلّمة فقد وقفت أمامَ طلاّبها الذين ما انفكّوا يكتمون ضحكاتهم ويطأطؤن الرؤوس وما تني نظراتهم لبعضهم تزدادُ مكرًا فيما يسطعُ شك وحَيْرة في عينيها بحاجبيها المعقودين عن آخرهما وتسألُهم بفضُول يتآكلها مشيرةً بإصبعها من حيثِ خَرج: ما الذي كان يقولهُ لكم هذا الرّجُل؟!!!!