رسائل «3».. لورنس العَرَب، ونَعَم: لقد تـَزوجـتُ!

عبدالله حبيب -


أوستن/ تِكْسَس، 23 أكتوبر 1997

عزيزي جمال

أيضاً، وعلى رأيك، «قد لا تكون هذه رسالة بالمعنى الصحيح» (في الحقيقة، يتساءل المرء مع كل رسالة عما إذا كان ما قد كتب يُعتبر رسالة، ومع كل كتابة يرى الكاتب بؤس الكتابة).. إذاً، «قد لا تكون هذه رسالة بالمعنى الصحيح» إذ عدتُ إلى التلمذة. لكن دعني أقول لك بشغاف القلب من هذا اللهاث الدراسي الفظيع ومتطلباته اللحوح والخانقة ان وصول رسالتك الثانية لي خلال هذين العامين- أي الرسالة المؤرخة في 10 مايو 1997 يوم أمس (الخميس، 23 أكتوبر 1997) – كان مفارقة ملتبسة ومصادفة رائعة ضمن نسيج من المشاعر، والأمكنة، والأزمنة، والتواريخ، والعناوين.


هي مفارقة ملتبسة لأنك بعثت رسالتك إلى عنواني في مسقط (أو عنوان جهة عملي، على نحوٍ أدق)، وقد تطلب الأمر كل هذه الشهور حتى تتدبر طريقها إليّ في الطرف الأقصى من الأرض، أمريكا البعيدة التي حططتُ الرحال فيها مجدَّداً بغرض إنجاز مرحلة الماجستير. والأمر مصادفة رائعة لأن تفكيري بك وتصوري الضبابي لراهن أحوالك قد ازدادا خلال الأيام الفائتة، خاصة حين عرض لي خاطري أسماء عدد من الأصدقاء الذين من الممكن الاستعانة بهم في جمع أدبيات باللغة العربية حول لورَنس العرب (سأحدثك عن ذلك لاحقاً).

وقد كنت ألعن في سرِّي ظروف سفري المربِكة إلى أمريكا، وجور الوزن القليل الذي يسمحون لك به في الطائرات التي يصرون على انها لا تتسع إلا لقليل من الكيلوجرامات «الإضافية» مما هو امتداد «طبيعي» لوجودك الجوهري كلّه، هذا في الوقت الذي لا يتقاضون فيه تكاليف إضافية للوزن من الرُّكاب المليئين بالشحم والتفاهة، ما اضطرني إلى ترك الكثير من أوراقي ومتعلقاتي، بما في ذلك رسائل الأصدقاء، وذلك بصورة غير منظَّمة في عدد من المغلفات الكبيرة (على الرغم من ان ذاكرتي في الأيام القليلة الفائتة هذي كانت تومض حقاً بـ “عنوانك البريدي الأردني”).

وقد كان يخطر لي على نحوٍ استعادي انني لم أتلقَ منك رداً على رسالتين كنت قد بعثتهما لك في اثر وصول رسالة منك. دعني أصحح ذلك: الحقيقة هي انها رسالة واحدة بُعِثَت مرتين؛ حيث انني بعثت لك تلك الرسالة، وأرفقت بها اثنين من إصداراتي. ولما انقضت مدة طويلة، ولم أسمع منك، أعدت إرسال الرسالة ذاتها بالبريد المسجَّل هذه المرة خشية أن تكون الأولى قد ضاعت بصورة ما. وكنت قد أفدتك في الرسالة تلك بعنواني البريدي الشخصي. ثم مضت مدة أخرى ولم أتسلم شيئاً. بَيْدَ اني تسلمت رسالة جميلة من علي الساعي أرسلها إلى عنواني الشخصي، وأخبرني فيها بما يفيد ضمنياً انك- في الأقل – تسلمت إحدى نسختي تلك الرسالة؛ الأمر الذي ضاعف من تساؤلي عنك، وعن أسباب صمتك، خاصة وإنني منذ مجيئي إلى هنا وأنا على تواصل مستمر مع شقيقي مصطفى الذي أسأله بانتظام عما إذا كان قد وجد في صندوق بريدي رسالة من الأردن، فيكون الجواب بالنفي في كل مرة. وهذا التساؤل استمر حتى وصول رسالتك الثانية يوم أمس، والتي فاجأني إرسالها إلى عنوانٍ تقريبيٍّ لجهة عملي عوضاً عن عنواني البريدي، الأمر الذي يعني في ظاهره انك لم تتلقَّ أيَّاً من رسالتيَّ، بدليل انك استعملت العنوان الذي كنت قد اهتديت به في رسالتك الأولى. لكن رسالة علي عبيد الساعي تقول انك تسلمت مني، والأمر كلُّه غير خالٍ من ملابسة.

غير ان على هذه الملابسة أن «تلبس الباب» وتنصرف (مؤقتاً في الأقل، حيث أتوقع منك أن توضح لي الأمر بما يضمن للبريد العربي حق ادعاء الحد الأدنى من النزاهة إن أمكن).. على هذه الملابسة، إذاً، أن ترحل لتترك مكاناً للبهجة الغامرة لوصول رسالتك أخيراً. بَيْدَ ان هذه البهجة لا تلبث أن تنسحب بدورها في ارتباك مرعوب إذ يندلق بصري على الورقة التي سكبتَ عليها وجعك بقليل من الكلمات.

إذاً، لا يبدو ان أمورك على ما يرام، بل لا يبدو انها قريبة من ذلك على الإطلاق. لن تكون الأمور على ما يُرام أبداً- أعرف ذلك ربما أكثر من كُثْرٍ غيري. لكنني أتساءل بين الرغيف والورقة: أهو هَمٌّ طارىء من هموم الحياة، وما أكثرها؟. أهو استشراس الطحين ضد الدم وعظام الأطفال؟. أهو النحيب القديم للروح في غربتها الخالدة؟. أهو المزاج الذي لا يصطبغ بغير جوهره الداكن وجرحه البليغ؟.

لكن تَبَّاً لهذه التساؤلات الرعناء، فالجراح كلُّها تنزف دماً واحداً، له رائحة واحدة، ولون واحد، وذاكرة واحدة. حقاً، من ذا الذي يستطيع اكتشاف الفرق بين الدموع في كيمياء الوجع؟. ومع ذلك فالوجع يتفنن في ارتداء الأقنعة، بل ربما كانت تلك الأقنعة هي التجليات الأكثر حقيقية لهويته الفعلية، حضوره الساحق هو الغياب الآثم لأسبابه، مُرادُهُ المشروع هو المستحيل، ومطمحه المطلَق، ولا أقل من ذلك.

غير انني في تجربة الألم أدرك انه، في نهاية المطاف، هناك من يتألم لوحده تماماً، وبسريَّة متطرفة في الفرادة البالغة لوجوده، وفي التجربة الاستثنائية لحياته. إنها التجربة التي لا تتكرر، ولا يمكن البحث عن جذورها وأصدائها في مرجعيات الحزن وتجارب الوجد لدى آخرين. إن الأمر يخص «قدس الأقداس الذي لا يُمَسُّ» حسب تعبيرٍ أحبه كثيراً لكِرغَغارد. نعم، انني اعتقد انه حتى الاغتراب الروحي والوجودي في تقاسماته الجمعيَّة ليس- في المحصلة النهائية للأمر – إلا البصمة الفريدة التي لا تتكرر وإن تكررت الدموع وآهات الروح، وتماثلت.

لا أزال أتذكر لمعان سيجارتك على زجاج نظَّارتك السميكة في الليل وأنت تَمُجُّ الأنفاس الأخيرة للنار، فأتساءل عن الحريق الجديد الذي يضطرم أُوارُهُ في تلك البصيرة. خبِّرني إذاً!. [..]. هلَّا نظرت إلى خلفك، [..]، واكتشفتَ كم أنت قوي على الرغم من كل شيء؟.

هل لي أن أطلب منك البحث عن أية أدبيَّات (مقالات، بحوث، كتب، وحتى رسائل بريد القرَّاء في الصحف، إلخ) خاصة بلورَنْس العرب، سواء الشخصية التاريخية الحقيقية التي ينسب لها الكثير من المؤرخين الغربيين دوراً مُضَخَّماً في الثورة العربية الكبرى، أو الفيلم السينمائي «لورَنس العرب»، إذ أتوقع وجود مثل هذه الكتابات في الأردن بالنظر إلى الجغرافيا الطبيعية، والتاريخية، والسياسية في تجربة هذا الشخص/ هذه الشخصية. فعلى سبيل المثال، نشر المؤرخ الأردني سليمان موسى كتاباً عن لورَنس في 1962 ضمَّنه وجهة نظر تفنيديَّة عربية حول الرجل، فهل يمكن تدبّر نسخة منه؟. هل يمكن التوصل إلى كتابات أخرى؟. وإن عثرت على كتاب صبحي العمري «لورَنس كما عرفتُه» (دار النهار، بيروت، 1996) فلا تهتم به حيث ان لديَّ نسخة منه. بصورة عامة، تهمني الأدبيات العربية المحتمل توافرها عن الفيلم ربما أكثر من الأدبيات المتوافرة عن الشخصية التاريخية. أرجو أن تمنح هذا الأمر ما تستطيع من اهتمام في حدود ما يتاح لك من إمكانات، أي لا تكلف نفسك ما لا تطيق في ذلك.

والآن إليك هذه المفاجأة: لقد تزوجتُ!. نعم: لقد تـ..ز..و..جـ..تُ!. وقبل ليلتين من حفل زفافي أُدخلت إلى المستشفى فقد التهبت الزائدة الدودية اللعينة التي لم تحرك ساكناً طوال العمر العازب. غير اني رفضت إجراء العملية الجراحية للاستئصال قبل الزفاف، ووقَّعت على تعهد أخلي فيه طرف المستشفى من أية مسؤولية. في ليلة الزفاف حضر الحلّاق إلى غرفتي في المستشفى، وحلق ذقني على السرير الأبيض وسط همهمات وضحكات الممرضات!. ومن المستشفى خرجت مُسلَّحَاً بكيس كامل من العقاقير المضادة للألم إلى الفندق للزفاف، ورحبت بالمدعوين الكرام وكأني قادم لتوِّي من البيت!. لكن لدى ظهيرة اليوم التالي كان عليَّ مغادرة الفندق، وكنت في غرفة العمليات بنفس المستشفى حيث أفقت من التخدير وأنا طاهر من الزائدة الدوديَّة الدَّنسة!.

علي عبيد الساعي، علي عبيد الساعي!. سلِّم لي عليه كثيراً، كثيراً جداً، وأرجو أن تبلغه انني تسلمت رسالته الفاتنة، وانني لا أزال أنتظر اقتناص لحظة «بدويَّة» حقيقية تمكنني من كتابة ولو سطر واحد له. أريد أن أمر بتجربة كتابة «رسالة بدويَّة»، وليس «رسالة مدنيَّة»؛ ولذلك فإنني أطوف على تخوم الذاكرة وكثبان الكلمات مثل صقر جائع. لقد توصلت إلى قناعة ان المرء لا يستطيع أن يفهم حميميَّة علي الساعي ويحاورها ما لم يكن بدويَّاً، وبدويَّاً سأكون ولو لرسالة واحدة!. الانتظار هو انتظاري أنا، والبدو يُثَمِّنون الصبر ويغضون النظر عن الحماقات!.

عزيزي جمال: لا عليك، لا عليك من أي شيء، إلا من نفسك!.