سونيتات

فاطمة الشيدي -

1.

كل من الإيمان والحب وجه للآخر، فلا يمكن أن يحدث الحب إلا بإيمان خاص ومتوحد وعميق بالمحبوب من كل زوايا الحضور والتجلي الداخلي والخارجي، في اعتمالات واعية وذكية خارج التصدير الجاهز لفكرة الحب الأعمى التي هي سذاجة لا تحتمل مع كائن محكوم خلقا بالعقل، فدون الإيمان يصبح الحب ضربا من العبور السريع والهش للفكرة العظيمة، ويصبح حالة من التكرار المجتر للجاهز والمتداول من المشاعر بأبعادها السطحية والتجريبية، وهو مالا يليق بالحب حتى في ظاهر المسمى المقترن لغويا وثقافيا بالاكتمال والعمق والاجتراح والصدق.

تماما كما أن الإيمان لايحدث إلا بالمحبة المطلقة والتحليق الكلي والانغماس الملتذ في البهاء والتسليم الخاص والعميق بالتوحد، ودون الحب يصبح الإيمان ناقصا أو جزئيا أو عقليا أو تراتبيا وراثيا وهو ما يليق بالبعد الروحي للفكرة.

وكل من الحب والإيمان يفسدهما الكثير من العقل والمنطق، لأن البعد الذي يدوران حوله متعلق ومتعالق أساسا بالروح ولا يُلمس إلا ضمنها فقط، ومع هذا فبين الشك واليقين في الحب والإيمان مسافة ما، لا يمكن قياسها، بل لعلها ليست واضحة بما يكفي للعين والقلب وحتى للعقل، مسافة تتمدد وتتقلص حسب اشتداد الشوق وخفوته، وحسب تلمس النور وانفتاح الحجب بين الروح والجسد، وحسب الوقت وقانون الاعتياد والدهشة، وحسب أوار اللهفة واقتران الروح بالروح في كليهما.

ولذا كثيرا ما يغذي القلق هذه المنطقة ويوسعها بالحيرة والخوف والهزات الضمنية في معايير الثقة والركون، والتسليم والتحليق، والانغماس والانغلاق، والبعد والقرب في كليهما.

وذلك القلق هو أهم علامات الحب والإيمان البشري الذي لا يمكنه أن يرقى لفكرة الاكتمال والتسليم التام على كل حال وأيما وجه في روح يتجاذبها عقل، وعقل تلهمه روح، فيظل ذلك القلق يراوح الوعي البشري بين الضمور والحضور، مقلبا الأرواح بين شفاعة اليقين ويأس الشك، وبين علامات الريبة وإشارات الرسوخ فيهما.


2.

أطفالنا هم أجمل الأطفال وأذكاهم وأكثرهم حساسية وذوقا وعمقا واختلافا وليس ذلك لشيء إلا لأننا نحبهم، وكذلك آباؤنا وأمهاتنا وأصدقاؤنا وأخواننا وكل ما يتعالق مع أرواحنا ويتعلق بشغافنا،

إنها معجزة الحب، وشفاعة المحبة وطريقتها الوحيدة في التعبير بالأكثر والأجمل والأفضل.


3.

في مكان ما من هذا العالم كنا مجموعة شعراء من الشرق والغرب في مهرجان، وكنا جميعا نعاني من دكتاتورية وتسلط بعض المنظمين ونرجسيتهم الفجة التي يتعاملون بها. نحن الشعراء العرب تذمرنا أكثر من الآخرين وكأن الأمر يشبه جرحا وانفتح، كدنا نصرخ يا إلهي حتى هنا، نحن هربنا من دكتاتوريات عميقة سياسيا وثقافيا لنكون هنا ولن نسمح بهذا الآن.

بدا الآخرون أكثر هدوءا وتقبلا للآخر وتلمسا للعذر له وتسامحا مع أخطائه، قالت شاعرة غربية -جميلة من الخارج والداخل- في التعليق على نرجسية شاعرة وإظهارها لذاتها بشكل فج وممل بعد أن قلت لها «هذا كثير وهي لا تحتاج كل هذا لتثبت لنا أنها شاعرة بالقوة» قالت:»أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، ولكنها حرة فيما تفعل، يكفي أنها مرتاحة ومتسقة مع أفعالها، وعلينا احترام ذلك إن كان يريحها»

فكرت لاحقا كثيرا في الأمر وفي ردة فعلنا المبالغ فيها، ووجدت فعلا أننا نحن العرب لم نتعلم احترام موقف الآخر، وتقبله كما هو، بل نحن غالبا نخضعه لمقايساتنا الخاصة، وكأنها هي المحك أو المعيار الأسلم. لقد تربينا على ذلك وعلى إخضاع الآخر للتقييم المباشر من الداخل والخارج وفق معاييرنا وثقافتنا الخاصة.

إننا نحكم بأن كل ما يتقارب معنا هو رائع ومثالي، وكل ما يختلف عنا هو شر وكفر، وأننا أبناء ثقافة مجتمعية قمعية وكلية جاهزة لا تعمد للتفتيت والتجزئة في المواقف، بل للجاهز والكليشيهات العامة ويوجعنا ويربكنا التعامل مع الفرد، والتسامح مع الآخر بشكل عام، ولذا لسنا على درجة من المحبة والمغفرة وتقبل أخطاء الآخر.

فلماذا يحدث هذا ونحن أبناء رسالات تحث على المحبة واللين والرفق والرحمة، وأبناء أمة ثرية وغنية ومتنوعة أصلا، ولدينا الكثير من كل شيء، اللغات والحضارات والتاريخ، والأديان والمذاهب والطرائق والطوائف والأعراق والأجناس والألوان، الكثير من كل شيء يمكنه أن يصب في بحر المحبة والاختلاف والتعدد الذي يضيف ويرفع، ويكثر ويعمق قيمة وجودنا على هذه الأرض وأمام الإنسان عليها، الآخر الذي تعلم كيف يعيش بسلام وكيف يعمر الأرض بالمحبة بلا عنف ولا إقصاء.

إننا خليط رائع وعميق وممتد من الطبيعة حيث التنوع الجغرافي المتباين حتى التنوع التاريخي والفكري والإنساني. خليط يؤهلنا لنكون الأكثر تنوعا وتعددية وروعة وإدهاشا على هذه الأرض، فقط لو تعلمنا تقبل الأخر القريب والبعيد كما هو، واحترام عقائده وأفكاره وخصوصياته وطريقة عيشه وممارساته، وفهمنا عمق الرسالات الداعية للرفق والرحمة، والحاثة على العدل والمساواة، وقرأنا تاريخنا المتنوع وحضارتنا المتباينة. لو تعلمنا أن ننظر لأخطائنا ونقصنا وضعفنا، بدل النظر لأخطاء ونقص وضعف الأخرين، ليصلح كل منا ذاته ويرمم إنسانيته ويجلي روعته الداخلية بكل السبل الممكنة له ليعيش متسقا مع روحه وذاته أكثر من ضرورة اتساقه مع جماعة ما أو فكرة عامة أو عرف وتقليد.

أظن الآن بعد وقت من ذلك الموقف ومن الكثير من المواقف التي تمر على الإنسان يجاهد فيها ليكون عادلا وواعيا بالمعنى الحقيقي، أن لدينا مشكلة عميقة وراسخة في هذا الاتجاه، وأن مشكلتنا الحقيقة هي الأخر خوفا منه أو طمعا في إرضائه، وأنه لو أخرجنا الآخر من رؤوسنا كمحك أو مواجهة أو خوف أو مجاراة (كأفراد وجماعات)، ووضعنا صورته إلى جوارنا في فكرة العيش بسلام والتقبل كما هو، وليس أمامنا أو دوننا في فكرة المراقبة والمقارنة وربما المحاكمة والتجريم، لنستشعر اننا وجدنا على هذا الكوكب لنعيش معا بشكل مختلف أصلا، كل حسب طبيعته وطاقاته ومؤهلاته وأهدافه وغاياته وحسب ما يحب ويؤمن ويعتقد ويأنس ويرضى وبذلك يعيش كل منا فردانيته الخاصة، ويتقبل جماليات اختلاف الآخر أو غرابتها حتى بحيادية وموضوعية.

لو حدث هذا لخرجنا من فكرة القطيع من جهة، وفكرة إقصاء الآخر من جهة أخرى، ولأصبح تعددنا رحمة، واختلافنا عمق حضاري، ولأصبحنا أثرياء في العقل والروح والوعي الإنساني بشكل عام وانعكس ذلك على كل مفردات حياتنا ووجودنا، ولاستطعنا أن نعيش بسلام ومحبة كما يعيش الآخرون، ونذهب لما يذهبون إليه من تقدم وإضافة بدل اجترار الماضي والتغني بما كان أو محاولة فرضه جبرا بالتعصب والعنصرية الدينية والفكرية والثقافة والاجتماعية أو بالدم والعنف كما يحدث كثيرا الآن.


4.

كتاب مفيد، وكوب قهوة كبير، والكثير من التأملات والحوارات الداخلية، هي أجمل ما يفعله الإنسان كدرع حماية وفعل مقاومة في زمن الخراب الخارجي هذا!


5.

في غمرة الحزن المضاعف ثمة كوة ضوء صغيرة تنفتح في الروح يشع منها فرح خاص وحميم كيد تربت على الدمعة وتتلمس الجزع لتداويه، وفي غمرة الفرح الكبير ثمة حز صغير يحدث في الروح ويتسع تدريجيا يجعلها مرتبكة، وتشتهي الركون للقليل من الحزن الذي يولد دموعا باردة وغير مالحة.

في غمرة الكراهية ثمة حب نيئ، وفي غمرة الحب ثمة ابتعاد نسبي للخلف، وفي الطمأنينة ثم فزع مترقب، وفي الخوف ثمة أمان من نوع آخر، وكأن كل شيئ يحمل أضداده الكثيرة والمتعددة داخله.

نعم ففي البعيد منا لا يوجد حد فاصل بين ما يسعدنا وما يشقينا، وما نريد وما لا نريد، ما نحب وما نكره، ما نؤمن به، وما نكفر به. ثمة كتلة مشاعر كاملة تحتاج الوقت والفهم لتتخلق بوعي بعيدا عن الاستعداد النفسي أو الاستجابة لقانون الروح والجسد، وبعيدا عن العادات الإنسانية المتحققة بفعل العام، والتشكل الضمني للمتعارف عليه والمؤتلف معه، ولابد أن يحدث هذا في حدود العقل والوعي والرغبة في الحياة والفهم والمغايرة معا، مع القدرة على التمثل والتماثل لمشروع شخصي إنساني خاص يميل لتحديد المشاعر المتضاربة وغير المفهومة في العميق السحيق منا (ولذا ينحاز الجمع العام لما يعرفون) ﻷن الخروج المفاجئ على قانون الاعتياد يربك الرغبات والفهم، ويذهبنا في الضد منها مباشرة (ولذا أيضا يذهب الأضداد للأضداد مباشرة في حالات الارتداد) حتى تنتصر إرادة الجديد باستيعابه واستدراك مكنوناته وتمثلها ممن يجاهد للخروج على الأشياء بوعي متنام وهدوء عميق.

هل نحن من يصنع الطريق إذن؟

الطريق موجود سلفا، وخطواتنا تحدها يد القدر أو الصدفة غالبا والإرادة قليلا، ولكن نحن من يختار المشي في وقت ما، أو التوقف في زمن ما، أو الإسراع مع أو لشخص ما أو الانحياز ل أو ضد مكان ما.

نحن من يختار قصته بكل أبعادها وشخوصها في هذه الحياة مهما كان مقابل الاختيار فادحا، ثم يكتبها بالحبر الذي يختاره أيضا، وكلما كان الإخلاص لفكرة ما عظيما، كانت النهاية عظيمة بالضرورة، حتى لو لم تكن سعيدة وفق المتعارف عليه والسائد، فنحن من يتلمّس خيوط الحكاية ويتحسس ثبات الأرض تحت موقع القدم، ويعرف ما عليه في مواضع السكون والحركة في أدائها عبر الزمن والأمكنة والأحداث، ويقرر نهايتها في استجابة ضمنية لاتحاد إرادات كثيرة داخلية وخارجية بالطبع.


6.

في طريقنا إلى الحياة، كثيرا ما نؤجل الحياة حتى ننسى أن نعيشها يوما ما، فكم من الأحلام والمشاريع المؤجلة لزمن قادم قد لا يأتي أبدا، وكم من القراءات والكتابات، والأفكار والقلوب، والابتسامات والمحبات، والمشاركات والأفراح الصغيرة، ودموع الفرح، والالتفاتات الحنونة واللمسات والهدايا، والالتقاطات والاقتناصات، والاعتذارات والبكاءات، والندم والضحكات، والرقصات واللقاءات، وعبارات الشكر، والثناء، والامتنانات، والإعجابات التي وضعناها على رفوف الانتظار فقط حتى حين، لنفرغ من عمل ما، ونتفرغ لها ونعيشها بعمق فيمضي الوقت بنا وبها، ويأخذنا عنها فيزحف غبار النسيان على جوهرها، وينطفئ وهجها داخلنا، ويذبل حضورها فينا، وبذلك نكون قد نسينا أن نأخذها معنا للحياة، وكأننا في طريقنا للحياة ننسى الكثير من الحياة !


7.

الصباح المشفوع بالقهوة والموسيقى صديق الفرح الطري المنبعث من عمق الروح دافئا وناعما كجسد طفل يعانق الحياة لأول برهة، فرح حميم لا يربكه الحر الذي يتقدم على عجل كموظف سمين مصاب بالضغط والسكري، يمضي مهرولا لاهثا لأنه تأخر على عمله بسبب الزحمة، والنوم المتقطع ليلا بسبب التفكير في الديون المحيطه به من كل حدب وصوب من شعره حتى أخمص قدميه، يمضي حاملا حقيبته الكبيرة والكثير من التأفف والضجر واللعنات الضمنية التي يتمنى أن يبثها بكل قوة وصرامة في وجه الحياة، وكثيرا وتحديدا في وجه مديره اللئيم الذي سيبادر للنظر في ساعته بصمت فور ما يراه.

الحر المقيم بيننا بشغف عاشق يحث الخطى نحو محبوبته الذي تنتظر في مقهى ما على ناصية الشارع والقلب معا متناسيا كل واجباته التي ستسقط على رأسه كالحجارة لاحقا، بعد أن يشرب على مهل ابتسامة محبوبته مذابة في القهوة، ويقفل عائدا للحياة بكل تعالقاتها وأظافرها الحادة المتشبثة في جسده وروحه، ليعيث هو بدوره فينا وفيها خربشات وحروقا وضجرا بكل الألوان.

الحر الذي يغمز للحياة من بدايات العام كطفل شقي، ها قد وصلت يا أمي فأفسحي لي مجالا لألون ما يحلو لي من جدرانك وأضع بصمتي (الحارقة) في روحك وقلبك طويلا حتى نهايات عامك إلا من شهور قليلة، فتبتسم له الحياة بكل تفاصيلها الصغيرة والبسيطة المفرحة أحيانا والمضجرة أحيانا أخرى، فيحتل صباحاتها ومساءاتها لولا تحايلات بعض البشر عليها وعليه بالكثير من الحب والجمال والقهوة والموسيقى، ويبقى البعض الآخر «يعرفون كل شيء عن الحياة إلا كيف يعيشونها» بتنويع ما على ماركيز.