عمر كوش –
كاتب سوري –
مع الحروب العديدة التي شنت منذ الربع الأخير من القرن العشرين وحتى أيامنا هذه، أمست الحرب أم الحقائق، وترافق ذلك مع عبور العالم إلى لحظة جديدة من الحكم والسيادة. لحظة تغايرت معها المفاهيم بتغاير المعيارية والحَدَثية، وشهدت تحولات كثيرة، خاصة مع نهاية العشرية الاولى من القرن الحادي والعشرين، حيث باتت القوى الكبرى في العالم تتسيد المجال العسكري برمته في العالم، وهي تتطلع اليوم إلى امتلاك الكليّة المكانية والزمانية، فحلّت بذلك مرحلة كاملة من الأفكار والأحداث والتحليلات حول الحروب الاحتمالية والاستباقية، التي تحيل إلى لغة الصواريخ والدبابات مهمة كتابة الوقائع على الأرض، ساعية إلى أن تحقق حروبها قطيعتها الكارثية مع كل أسباب ومسوغات الحروب السابقة، سواء المفترضة منها أم المتخيلة، وقاطعة مفهوم الحرب عن ما تحقق له من مركبات وحمولات سابقة تراكمت عبر السنين، حتى غدت الحرب في معيارية الخطاب الجديد رسالة نظم قاهرة ومستبدة في العالم، التي يدعي فيها كل طاغية أنه المغرور المتوج على البلاد التي يحكمها ويتحكم بها، وأنه كلف بها تكليفاً إليهاً، مع أنها في حقيقة الأمر رسالة نفعية المحتوى، تكلف البشرية إزهاق أرواح الآلاف، بل الملايين من الأبرياء.
كانت الحرب حرباً رادعة، أي لردع عدوان، أو دفاعاً عن أرض أو حق مغتصب، لكن في المعيارية الجديدة لنظم الهيمنة صارت الحرب وقائية أو استباقية، تتحكم في وقائيتها نفعية ومصالح الحكام، فإذا كان هناك ثمة احتمال ما لتعرض مصالح الحاكم أو نظامه، توجب شن حرب على من يسبب ذلك التهديد، أو حتى على من تكون له النية في ذلك. لكن الحرب غير الشرعية تبقى، قبل كل شيء، فعلاً يتناقض مع القانون الدولي والإنساني، وعليه فإن المقدمة الكلية لكل ما يتبع مفهوم الحرب على الصعيدين المفهومي والجيوسياسي صارت تخضع لمنطق القوة والتسلط، الذي غلّب الإرادة على العقل، ولم يسعفه في ذلك غير امتلاك نظام الاستبداد لجيوش قوية ومطيعة لأوامر الحكام المستبدين، وبالتالي فإن منظري منطق إرادة القوة، وصانعي حروب الأنظمة، باتوا أسرى وقائع وأحداث معياريتهم العدوانية في شن الحروب. وعليه لن تنفع أصوات الحركات المناهضة للحرب، ولا ركام خطابات السلام، في منعهم عن تنفيذ خططهم العدوانية.
لكن هل يمكن الحديث عن الحرب اليوم من غير الإحالة إلى الواقع الدولي؟
إحالة كهذه، ليست بسبب الطابع الكوني لمفهوم الحرب، بل لأن مسألة الحرب تقتضي موقفاً منها، وهو موقف يتجه نحو رفضها بوصفها حرباً، وبالأخص حين تفقد صفة الشرعية أو العدالة، مع أن هذا الموقف الرافض يكتسي اليوم أهمية مميزة في الحالة السورية او العراقية.
من جهة أخرى فقد سال كلام كثير حول مفهوم «الحرب على الإرهاب»، بوصفها حرباً «عادلة»، و»شرعية»، إذ على الرغم من محاولات أقلمة هذا المفهوم الفقير، وزرعه في التربة العربية، إلا أنه لم يحتل مركزاً رئيساً في النقاش الدائر على صعيد الفكر السياسي المعاصر.
ويستند مفهوم «الحرب على الإرهاب» إلى دعوات تحيله إلى مشروعية استخدام القوة العسكرية، طالما تستخدم ضد «إرهابيين»، أو «خارجين عن القانون» أو «تكفيريين»، بحثاً عن مبرر «شرعي» أو أخلاقي. كما يستند إلى فعالية الأداء العسكري للقوة في سبيل تحقيق الهدوء، وفرض النظام الذي تراه سلطة قوة النظام المعني مناسباً. وهذان العنصران يشكلان أساس نظام الاستبدد وتقاليدها، فالعدو اليوم في ظل هذه المعيارية بات أمراً مألوفاً، حيث تجري عمليات اختزاله إلى مجرد هدف ينبغي استئصاله بعملية «جراحية»، كونه ينتمي إلى «المجموعات المسلحة» أو «منظمات إرهابية». إنه عدو بالمطلق الميتافيزيقي، بوصفه يشكل تهديداً للنظام الحاكم، وأجهزتة وأركانه.
ويضمر «خطاب الحرب على الإرهاب»، كما برهنت حروب الأنظمة ضد شعوبها، نزعة عدوانية، فاشية المحتوى، ترفض التعدد والاختلاف والغيرية، وتمجد الأصل، وما يتناسل منه من ادعاءات ودعوات، كما تنظر إلى الحياة بوصفها صراعاً دائماً ما بين محوري أو معسكري، الخير والشر، أو بين عالمين منفصلين، الأول يسكنه الطيبون، والثاني عالم الأشرار، ومن ثم تمجّد الحرب والدعوة إلى خوضها.
لكن الحرب على الإرهاب أو سواها، مهما حاول دعاتها، تبقى غير عقلانية، وهي ليست استكمالاً للسياسة، ونعتذر هنا من «كلاوزفيتز»، كونها، أي الحرب، صارت تتخذ من السياسة امتداداً لها وبطرق مختلفة، فحروب أمريكا العديدة لم تؤد إلى سياسة وسلام، بل إلى نوع من حروب مؤجلة، من خلال هدنة تتبعها حرب أخرى في امتداد قد لا ينتهي.
لقد صارت مفردة «الحرب»، قناعاً يخفي ما تعبّر عنه. وإلحاقها بلازمة معينة، مثل «على الإرهاب»، يعني إطفاء طابع الشرعية على ما يصاحبها من قتل وتدمير وترويع وضحايا، ويصبح الهدف هو إضفاء طابع الاعتياد على ويلاتها ودمارها وخرابها.
وحول هذه المعيارية المخاتلة، انبرى عدد من الكتاب (الحربيين)، الذين يروجون للحرب، ونمت الأدبيات (الحربية) التي جهد أصحابها في إفراغ كلمة «حرب» من محتواها، وفي حمل الناس على فهمها فهماً سلبياً، لا يثير التفكير لديهم، ولا يحرّض الوعي.
فحين تتسلل كلمة الحرب إلى كل التحليلات، وتترد فوق كل المنابر، فإن المواطن سرعان ما يستأنس بها، ويتقبلها بوصفها تسمية لشيء قدري لا مناص منه، وكأنها بلاء يوحد الأمة. والمصيبة إذا عمت هانت، وتلك هي الحكمة البالغة لمنظري خطاب الحرب ومروجيه.