تركيا.. بين خطر الأكراد وتهديدات داعش

عاصم عبد الخالق –

assem@ahram.org.eg –


الموقف التركي المرتبك وغير الواضح في التعامل مع داعش يبدو محيرا ومثيرا للتساؤلات وربما اكثر من ذلك. تركيا الرسمية تعتبر أن داعش تمثل تهديدا لأمنها القومي ومع ذلك لم تنضم الى التحالف العربي الدولي لمقاتلتها حتى الان.


وتبدي أنقرة قلقا وخوفا من امتداد نشاط المنظمة الإرهابية الى اراضيها إلا أنها لم تطلق رصاصة واحدة لوقف تمددها. وتعلن تركيا أيضا أن سقوط بلدة كوباني السورية المتاخمة لحدودها هو تطور خطير وغير مقبول وتحشد الدبابات على طول الحدود ولكنها في النهاية لم تتحرك.

هذا التناقض التركي، أو ما يبدو كذلك، بين الأقوال والأفعال جر عليها وابلا من الانتقادات الدولية والإقليمية وحتى الداخلية بشأن عدم وضوح سياستها وتوجهاتها، بل وصل الأمر الى اتهامها بالتواطؤ مع داعش ودعمها سرا.

غير أن الحقيقة ليست كذلك، وما تفعله تركيا ليس مناورات سياسية عقيمة كما يظن البعض أو كما يتهمها البعض الآخر، وليست محاولة لخداع العالم.

القيادة التركية حائرة بالفعل بشأن أفضل الخيارات الممكنة والمتاحة للتعامل مع الأزمة الحالية. تحاول انقرة أن تجد لها سبيلا يمكنها من الاختيار بين أقل البدائل ضررا وخطرا على أمنها ومصالحها. وهي تعرف مقدما أن كل الخيارات محفوفة بالمخاطر وهذه هي مشكلتها الكبرى ومأزقها المعقد.

ما يواجهه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان هو أزمة مزدوجة بين خيارين أحلاهما مر: الحرب أو اللا حرب وعليه الاختيار وتحمل تبعات قراره في النهاية. وليس صحيحا هنا أن التفويض الذي منحه البرلمان التركي الأسبوع الماض للحكومة لنشر قوات في سوريا والعراق قد حل المشكلة أمام اردوغان وقدم له مبررا لشن الحرب، أو جعلها البديل الوحيد والآمن سياسيا بالنسبة له على أساس أنه ازال من طريقه آخر العقبات التي كانت تحول دون الانضمام الى الحملة العسكرية الدولية ضد داعش.

من المهم هنا الإشارة الى أن هذا القرار لم ينص، خلافا لما صوره الإعلام، على بدء القتال ضد داعش، ولكنه نص على جواز نشر قوات تركية في سوريا والعراق لحماية الأمن القومي، مع السماح للحكومة بنشر قوات أجنبية في أراضيها لنفس السبب. المعلومة المهمة التي أغفلها الإعلام أن هذه التفويض أو القرار ليس الأول من نوعه وسبق للبرلمان أن أصدر 7 أو 8 تفويضات مماثلة منذ 2003 كلها باستثناء مرتين تركز على قتال حزب العمال الكردي التركي في شمال العراق. والتفويض الأخير مشابه الى حد كبير للتفويض الذي كان البرلمان قد منحه للحكومة في أكتوبر 2012 لنشر قوات في سوريا. الفارق الوحيد كما رصده تقرير لمجموعة الأزمات الدولية هو أن اللغة المستخدمة في تفويض الأسبوع الماضي جاءت أشد وأقوى، لكن موافقة البرلمان كما تقول المجموعة، لا تعني مباشرة خوض الحرب، وليس في التفويض ما ينص على ذلك.

الملاحظة المهمة الأخرى التي تفيد في فهم حقيقة الموقف التركي والثوابت التي تحرك سياستها الخارجية تلخصها تصريحات أدلى بها عصمت يلمظ وزير الدفاع قبل التصويت على التفويض وقال فيها إن قرار البرلمان لن يغير شيئا من واقع أن القوات التركية ستبقى داخل أراضيها. وهذا يعني بوضوح أن تركيا لم تكن منذ البداية متحمسة للانخراط في عملية عسكرية خارجية ولديها أسبابها.

تعلم أنقرة أن مثل هذه العملية لن تكون نزهة بل مغامرة سيكون لها ثمنها الفادح على المستويين السياسي والعسكري. وتضع في اعتبارها أيضا أن داعش التي لديها العديد من الشباب التركي المتحمس لها لن تعدم الوسيلة لنقل الحرب الى شوارع انقرة واسطنبول وغيرهما من المدن التركية. ولا يخفى على الحكومة التركية أن العديد من الأتراك ينظرون بتعاطف الى داعش باعتبارها التنظيم السنى الذي يتصدى للاضطهاد الطائفي للسنة في العرق وسوريا. هؤلاء الاتراك المتحمسون لداعش والمتعاطفون معها سيشكلون قوة مناوئة للحكومة في بلادهم ستضعها في الاعتبار حتى لو اقتصر خطرهم على العمل السياسي وليس النشاط الإرهابي. ولا ينسى اردوغان هنا أنه مقبل على انتخابات برلمانية بعد تسعة أشهر.

كما لا تأمن تركيا من تكرار الهجوم على بعثاتها الدبلوماسية في الخارج على نحو ما تعرضت له قنصليتها في الموصل. التدخل العسكري التركي ينطوي على مخاطرة مهمة أخرى وهي تفاقم أزمة اللاجئين الذين تكتظ بهم الأراضي التركية. ويكفي أن أكثر من 130 الف لاجئ فروا من كوباني وحدها خلال الأسبوع الأخير فقط من الشهر الماضي.

ثم إذا كان الرئيس الأمريكي يقول إن الحرب على داعش ستستمر سنوات فهل تتحمل تركيا خوض حرب مفتوحة الى هذا الحد؟ وهل تعرف بالضبط من هو الطرف الذي سيتعين عليها مقاتلته بعد أن يتم تدمير البنية الأساسية لداعش. الأهم من كل ذلك هو ما هي الحصيلة التركية من الناحية الاستراتيجية لمثل هذا التدخل العسكري. هذه تحددها الإجابة عن السؤال التالي: من هو المستفيد من الحرب ضد داعش؟

من وجهة النظر التركية فإن المستفيد الأكبر سيكون أكراد سوريا، ومعهم بالطبع أكراد العراق، وهي محصلة تخصم من رصيد المصالح القومية العليا لتركيا، ولا يمكنها أن تشارك بنفسها وعبر جيشها في تحقيقها.

عندما تدفع تركيا بجيشها لتحطيم داعش فإنها تمنح قبلة الحياة لأكراد العراق وسوريا المنخرطين في قتال هذه الجماعة. وتتيح لهم بالتالي تمددا إقليميا على رقعة أكبر من الأرض، واعترافا دوليا جديدا. وسيؤدي هذا بطبيعة الحال الى فرض نوع من الحكم الذاتي أو حتى الاستقلال الكامل ولو غير المعلن للمناطق الكردية في البلدين، وهذا بدوره يرفع من سقف المطالب القومية لأكراد تركيا للحاق بأشقائهم في البلدين.

لا يستطيع اردوغان أو غيره السماح بحدوث هذا الهاجس القومي. ولن يخسر في هذه الحالة أصوات القوميين المتشددين بطبعهم إزاء المسألة الكردية فحسب، بل سيخسر أصوات مؤيديه أيضا الذين سيعتبرون أنه يفرط في مقتضيات الأمن القومي.

ثمة رابح آخر أيضا من القضاء على داعش وهو النظام السوري، وهذا أيضا عدو لدود لأنقرة ولا يمكن أن تشارك في إهدائه هذا النصر المجاني.

هذه كلها عوامل تدعو تركيا لتجنب الحرب والبحث عن بدائل أخرى أقل تكلفة. يدفعها لذلك أيضا اختلافات جوهرية في رؤيتها للصراع مقارنة برؤية الغرب. ذلك أن انقرة تعتبر أن وجود داعش هو نتيجة لديكتاتورية النظام السوري، ومن ثم فإن الحل هو في القضاء على هذا النظام وستنتهي بالتالي كل النتائج التي ترتبت على وجوده. بينما أصبحت واشنطن أكثر ميلا لقبول بقاء الأسد أو على الأقل عدم اشتراط رحيله الآن خوفا من سقوط سوريا في أيدى التنظيمات الإسلامية المتطرفة.

يضاف الى هذا ما يعتقده بعض المحللين السياسيين من أن لتركيا مصلحة تكتيكية قصيرة الأمد في سقوط كوباني. بمعني أن سقوطها ليس شرا كله كما يفترض. ذلك أن مثل هذه التطور سيمثل ضربة مهمة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا وهو الامتداد الإقليمي لحزب العمال الكردي التركي. ومكاسب الأول تصب في صالح الثاني والعكس صحيح. ومن ثم فإن من مصلحة تركيا استنزاف أحد الحزبين أو كلاهما، وهو أمر مطلوب قبل المضي في المفاوضات مع حزب العمال، لأن التفاوض مع خصم وهو في حالة ضعف وإنهاك أفضل كثير. وليس من المعقول أن تهدي إليه انقرة نصرا عسكريا مجانيا يعزز وضعه التفاوضي على حسابها.

هذه الزاوية المهمة في النظر إلى محددات الموقف التركي تكشف بعدا آخر عن عمق الأزمة التي تعيشها القيادة، وتبرر حيرتها في حسم توجهها وتحديد الوزن النسبي لكل تهديد، وهل ترى أن الخطر الأكبر هنا يأتي من داعش أم الأكراد؟

هذه العوامل كلها وإن كانت تشجع على تجنب الحرب فإن مثل هذا الخيار أي اللا حرب هو بدوره يمثل مخاطرة لا يمكن تجاهلها.

البقاء في حالة سكون ومراقبة كوباني وهي تسقط في أيدي داعش سيعني أن اردوغان قد وضع المسمار الأخير في نعش سياسة الانفتاح على الأكراد التي رسخها طيلة 12 عاما من وجوده في رئاسة الحكومة. وسيعني هدم كل ما بناه معهم من جسور الثقة والتفاهم والمصالحة. وقد هدد قادتهم علنا بالانسحاب من مباحثات السلام مع الحكومة إذا سقطت كوباني. انهيار المباحثات على هذا النحو يعني أن مخاطر تجدد الحرب الداخلية بين الحكومة والأكراد أصبحت أقوى من أي وقت مضى وهذه كارثة حقيقية.

ولا يمكن لقادة تركيا تجاهل حقيقية أخرى مهمة وهي أن داعش تمثل بالفعل خطرا على أمن بلادهم وأن التسامح معها سيكون له انعكاسات سلبية على مصالح تركيا وارتباطاتها المتشعبة والمعقدة مع الغرب.

على اردوغان أن يحسم أمره فهو لا يملك رفاهية الانتظار أكثر من ذلك، وليس لديه أيضا فرصة للهروب من اتخاذ قرار.

فإما أن يختار العمل العسكري ويشرع فيه أو يستبعده ويعلن ذلك. وفي الحالتين عليه أن يكون مستعدا لدفع الثمن. في كل الأحوال هو في هذا الموقف الذي لا يحسد عليه.