ماجد كيالي –
majedkayali@gmail.com –
تتأسس المبادرة الفلسطينية الجديدة على تجريب فكرة قوامها وضع إسرائيل (والولايات المتحدة) أمام خيارين، فإما القبول بإقامة دولة فلسطينية في غضون عدة سنوات، بداية من ترسيم الحدود، أو وقف المفاوضات وتحويل القضية الفلسطينية الى مسؤولية دولية، بدءاً من دخول دولة فلسطين في عضوية المنظمات والهيئات الدولية، وصولاً إلى طلب الحماية الأممية، للفلسطينيين في الأراضي المحتلة (1967).
لا شك أن هذه المحاولة، ولو المتأخرة، من القيادة الفلسطينية، لتغيير طبيعة العلاقة بينها وبين إسرائيل، أكثر من ضرورية ومطلوبة، وهي تأتي بعد ادراكها انسداد أفق المفاوضات، ويأسها من السياسات التي تنتهجها الحكومات الإسرائيلية المتوالية، أكانت في ظل قيادة حزب العمل او ليكود او كاديما، ونتيجة إدراكها للمأزق الناجم عن ارتهانها لعملية التسوية، وللخيار التفاوضي، وارتدادات ذلك على تراجع وتآكل مكانتها في الإطار الفلسطيني.
بيد أن المشكلة في هذه المبادرة القديمة الجديدة أنها تفتقد إلى الحوامل اللازمة لها، إذ إن شبكة البنى والعلاقات والمنظومة المفهومية التي حملت اتفاق أوسلو، طوال العقدين الماضيين، سيصعب عليها التحول نحو خيارات أخرى، عدا أنها غير مؤهلة لذلك، وربما أنها ستعمل على مقاومة أي تحول جاد عنه.
الأهم من كل ذلك أن القيادة الفلسطينية، وهي تحاول تغيير مسارها السياسي، لم تشتغل، من الأصل، على التهيئة لهكذا تحول، ما يرجح أحد احتمالين: إما انها غير جدية في مسعاها في قلب الطاولة التفاوضية، وتدويل قضية فلسطين، وتغيير نمط علاقتها بالإسرائيليين، والانفكاك من اشتراطات أوسلو، أو أنها مجرد تتوخى تجاوز أزمتها التفاوضية والداخلية، وتاليا تعويم وضعها للسنوات القادمة، بطلب التوصل الى اتفاق وسط جديد، بحسب ماجرى طوال المرحلة الماضية، بدليل الحديث عن فترة زمنية تقدر بزهاء ثلاثة او أربعة أعوام!
هكذا، فإن هذه «المبادرة»، مثلها مثل الخطط التي سبقتها، لا تنبني على استراتيجية سياسية واضحة، ولا على خطة عمل أو تصورات سياسية مدروسة في الإطارات الشرعية او القيادية، ولا الى منهجية نقدية في مراجعة المسيرة السابقة، وضمنه إعادة استنهاض البنى السياسية الفلسطينية، في السلطة والمنظمة والفصائل، وحتى انها لا تستند إلى أي تغير نوعي في البيئتين العربية والدولية، لصالح كفاح الفلسطينيين وطلبهم إقامة دولة مستقلة لهم.
ومعلوم أن ذلك، أي ملاءمة الوضعين العربي والدولي، يشكل شرطاً أساسياً لنجاح أي مسعى فلسطيني، مهما كان حجمه، بواقع تعذر قدرة الفلسطينيين لوحدهم على فرض أي شيء على الإسرائيليين، لا بالمفاوضة، ولا بالكفاح المسلح، على ما بيّنت التجربة ومنها تجربة الصراع الدامي في الانتفاضة الثانية، وتجربة الحروب الثلاثة على غزة وضمنها الحرب الأخيرة، وذلك بحكم موازين القوى والمعادلات السياسية الدولية والإقليمية والعربية الراهنة.
هكذا، لا شيء جديد البتة في المبادة المطروحة، وهي خطة متأخرة جداً، كما ذكرت، إذ ان كل الخيارات المطروحة كان يمكن انتهاجها في السابق، وفقط فإن القيادة الفلسطينية هي التي تلكأت في تغيير رهاناتها او خياراتها، وظلت حبيسة خيارها التفاوضي، تحت شعار: «الحياة مفاوضات»، او «لا خيار غير المفاوضات إلا استمرار المفاوضات ذاتها».
مثلاً، فقد كان بإمكان القيادة الفلسطينية، وبدلا من الانخراط في خيار أوسلو المجحف والناقص والمذل، انتهاج خيار تدويل القضية الفلسطينية، أي تحميل مسؤوليتها للمنظمة الدولية، وللنظام الدولي، وتوفير عقدين من المعاناة، ومن الجهود العقيمة، ومن التشويش على الفكرة الوطنية، وتهمش منظمة التحرير، وانقسام الكيان الفلسطيني، وتصدع ادراكات الفلسطينيين لذاتهم ولحركتهم الوطنية.
وكانت القيادة الفلسطينية عندما رضيت بمبدأ التفاوض مع إسرائيل، في مطلع التسعينيات، وقعت في شرك سياسي، وفي مطبّات سياسية جوهرية، وخطيرة، أضرت بقضية فلسطين. فهي مثلا رضخت لمبدأ اعتبار التفاوض، ورضى الطرفين، هو أساس العملية، ما يعني ربط أي قضية برضى إسرائيل، وهذا أطاح بكل القرارات الدولية الخاصة بقضية فلسطين، الصادرة عن المنظمة الأممية. كما أن الانخراط في عملية تفاوضية، في تلك الظروف والمعطيات غير المواتية، أدى الى الخضوع للإملاءات الإسرائيلية، في كل شيء، وضمنه القبول بتأجيل البت بموضوع الاستيطان، وعدم تحديد مآل الحل النهائي، وغياب جدول زمني، وتقسيم أراضي الضفة وإبقاء سيادة إسرائيل على المعابر والاقتصاد والبنى الأساسية.
هذا الكلام لا يعني أن انتهاج الحل الدولي كان سيحرر فلسطين، او كان سيجلب الدولة الفلسطينية على طبق من فضة، ولكنه كان سيضع إسرائيل أمام مسؤولياتها إزاء المجتمع الدولي، ويجنب الفلسطينيين التداعيات المضرة الناجمة عن العملية التفاوضية، لاسيما اننا نتحدث عن مرحلة بدا فيها ان القوى الدولية الكبرى كانت بحاجة الى تسوية ما للقضية الفلسطينية، وهو الامر الذي لم تستغله القيادة الفلسطينية وقتها بشكل جيد، وعلى نحو انسب.
باختصار، المسألة لا تتعلق بوقف المفاوضات، كما ولا بالذهاب نحو الكفاح المسلح، في ظروف غير مواتية، إذ ثمة خيارات أخرى أكثر جدوى، وضمنها، مثلا، عدم المراهنة على المفاوضات، واعتبارها جزءا من العمل السياسي، والتكيف مع المنظومة الدولية، بانتظار تغير الظروف والمعطيات لا أكثر. وضمن ذلك يأتي حث الخيارات المتعلقة بالمقاومة الشعبية، وتفعيل عملية المقاطعة ونزع الشرعية عن إسرائيل، باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية وعدوانية، واعتبار ذلك جزءا من الكفاح التحرري، لا على انه مجرد كفاح مطلبي. وبديهي ان ذلك يتطلب توليد رؤى سياسية فلسطينية جديدة، لا ترتهن لفكرة الدولة المستقلة، وانما تفتح على حل الدولة الواحدة، الديمقراطية، التي تطابق بين قضية فلسطين وارض فلسطين وشعب فلسطين، وتجد في طياتها حلا للمشكلة اليهودية في فلسطين/إسرائيل، باعتبارها النقيض لفكرة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية، وباعتبارها المعادلة التي تجمع بين الواقع والطموح، والحقيقة والعدالة.
أخيراً، ما ينبغي أن تدركه القيادة الفلسطينية أن المشاريع السياسية لا يمكن ان تتحقق مع بني مستهلكة، وغير مؤهلة، وان الوضع يتطلب تركيز الجهود نحو إعادة بناء البني السياسية الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل)، على أسس وطنية ونضالية وديمقراطية وتمثيلية.