عماد عرياني –
برغم كل هذه الضجة الكبرى التي تثيرها إسرائيل وتحاول من خلالها أن تبدو مذعورة من التحرك العربي – الفلسطيني داخل مجلس الأمن إلا أنها على قناعة تامة بأنه لن يتم تمرير ما يفاجئها ولا ترضى عنه من قرارات.
ويتأكد ذلك من المشهد الراهن داخل أروقة المجلس الدولي التابع للأمم المتحدة والمعني بشكل مباشر بإقرار الأمن والسلام في العالم، ومن حيث المبدأ لا شك في أن لجوء الفلسطينيين للمجلس لاستصدار قرار دولي بانهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية يعتبر خطوة جسورة طال انتظارها وآن أوانها في الوقت ذاته بغض النظر عن أي حسابات دولية ايجابية كانت أم سلبية، وقد مهد الفلسطينيون لهذه الخطوة عبر أشهر طويلة مضت في محاولة للاستفادة بالظروف العالمية المحيطة، وخاصة ما يتعلق بالاعترافات البرلمانية الأوروبية بالدولة الفلسطينية المستقلة وأحقية الفلسطينيين فيها، فضلاً عن وجود رغبة دولية لإغلاق هذا الملف وإنهاء حالة الإحتلال الوحيدة القائمة في العالم.هذه التحركات الفلسطينية – العربية داخل مجلس الأمن من الطبيعي أن تثير قلق إسرائيل وأطراف دولية أخرى شديدة التأييد لها، ليس لأنها تمثل خروجًا من بيت الطاعة الأمريكي المقيد للتحركات الفلسطينية ويحددها في مسارضيق لا يلبي أبسط المطالب الفلسطينية المشروعة، وإنما لأنها تنقل تلك المطالب وآلية تنفيذها إلى آفاق غير مسبوقة، ولكن من المبكر اعتبارها انتصارًا صريحًا للفلسطينيين، ومن المبالغة كذلك اعتبارها مدعاة لذعر الدولة الصهيونية التي تعلم جيدًا أن قضيتها مازالت في الملاذ الآمن الذي طالما احتمت به في مواجهة العالم ألا وهو مجلس الأمن ذاته.ربما يمكن الحديث عن أسباب أخرى لإحساس الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتانياهو بالقلق نتيجة التطورات الأخيرة ومن بينها توصيات البرلمانات الأوروربية بشأن الدولة الفلسطينية المستقلة والتحركات داخل مجلس الأمن وبروزمؤشرات أمريكية على إمكانية ابتزاز حكومة نتانياهو واضعافها تمهيدًا للإطاحة بها، ما دفعه للإعلان عن انتخابات برلمانية مبكرة، ولكن كل هذه الأشياء لا تصل إلى حد التراجع عن الاستراتيجية الدائمة التي تحكم إسرائيل منذ نشوء المشروع الصهيوني قبل أكثر من مائة عام وتقوم أساسًا على أن مجلس الأمن هو القوة الدولية الأساسية التي تحمي «الدولة الإسرائيلية»، العمالية أو اليمينية، البنجوريونية أو الشارونية، ومن ثم تعتبره بالفعل ملاذها الآمن بفضل حق النقض «الفيتو»الذي يمكن أن تستخدمه ثلاث دول كبرى هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في مواجهة أي قرار يمثل تهديدًا أو يشكل حرجًا حقيقيًا لإسرائيل.وقد حدث ذلك بالفعل عشرات المرات منذ صدور قرار اعتراف مجلس الأمن بدولة إسرائيل في مايو عام 1948، حيث أجهض الفيتو الأمريكي على وجه التحديد قرارات عديدة كان من شأنها إقامة العدالة الدولية، ولو بشكل نسبي بمنح الفلسطينيين جزءًا من حقوقهم المشروعة، ولكن مساندة الولايات المتحدة الدائمة لإسرائيل باعتبارها حليفها الاستراتيجي في الشرق الأوسط جعلها خط الدفاع الأول عنها على مدار عشرات السنين كسياسة ثابتة لا تتبدل، وإذا كان ما يقرب من نصف قرارات مجلس الأمن الدولي التي صدرت منذ عام 1948 ترتبط بشكل مباشر بالصراع العربي-الإسرائيلي ومشكلات المنطقة إلا أن أيا منها لم يحمل انتصارًا صريحًا للحقوق الفلسطينية. وبالفعل نجح المجلس في إصدار عشرات القرارات الخاصة بهذا الصراع المرير إلا أن أيا منها لم يطالب بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة ولم يحدد أي آليات لتنفيذ قراراته أو منح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة.وقد كان الشق الأكبر من هذه القرارات عبارة عن مجرد شجب أوإدانة لتصرفات إسرائيلية كانت تستوجب ما هو أكثرمن ذلك بكثير أو أنها استنكار لخروج إسرائيل على مبادئ قانونية أو إنسانية حتى دون أن يطالب المجلس بخطوات إلزامية لتنفيذ ما أوصى به، أو أنها قرارات ترتبط بالصراع ذاته دون أن تمس القضية الفلسطينية بشكل مباشر رغم كونها لب هذا الصراع مثل القرار رقم 242 الصادر بعد عدوان إسرائيل على أراضي ثلاث دول عربية عام 1967والقرار رقم 338 الصادر بعد العدوان على لبنان واللذين يطالبان إسرائيل بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة دون أي ذكر لدولة فلسطينية مستقلة، وتجدرالإشارة في هذا المقام إلى أن معظم قرارات الإدانة التي صدرت ضد إسرائيل عن مجلس الأمن أيضا كانت ذات صلة بتصرفات عدوانية تجاه دول الطوق الأعضاء في الأمم المتحدة وخاصة الأردن، ولكن بغض النظر عن نوعية القرارات التي صدرت عن المجلس إلا أن إسرائيل ضربت بها جميعًا عرض الحائط فلم تجد طريقها إلى التنفيذ. ومن ثم لا تجاوز إذا ما كان الحديث عن وضع إسرائيل فوق القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة جراء سياسات وتصرفات مجلس الأمن الدولي، وبالتأكيد تدرك إسرائيل هذه الحقيقة جيدًا، وتتحرك على أساسها إقليميًا ودوليًا، ويتضح ذلك بما لا يدع مجالاً للشك في متابعة تصرفات وأحاديث ومشاعر المندوب الأسرائيلي -بغض النظر عن اسمه وزمنه- داخل مجلس الأمن ومقارنتها بما يفعل داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث لا فيتو أمريكي أو أوروبي، وحيث التأييد الطاغي للشعب الفلسطيني وقضيته العاجلة، في مجلس الأمن يجلس المندوب الإسرائيلي مزهوًا مفعمًا بالغرور ومشاعرالفخروالإنتصار؛ لأنه يعلم النتيجة مقدمًا ولا يخشى الهزيمة بدعم الفيتو الأمريكي، وعكس ذلك تمامًا يحدث في الجمعية العامة حيث تراه متخفيًا كسيرًا خفيض الصوت أيضا لإدراكه جيدًا النتيجة مقدمًا.. هزيمة قاسية أمام العدالة الدولية التي لا تعترف بحق (الفيتو).
ولا شك في أن القيادة الفلسطينية والدول العربية تدرك هذه الحقائق جيدًا وبعضها يقترب من حد الثوابت التي لا تتغير وفي مقدمتها بالتأكيد أن مجلس الأمن هو الملاذ الآمن للدولة الصهيونية، فهل أخطأ الفلسطينيون أو كانوا في عجلة من أمرهم عندما نقلوا أرض المعركة إلى هذه الهيئة الدولية؟ بكل تأكيد لا، لم يخطئ الفلسطينيون ولم يتعجلوا أمرهم، بل إن المطلوب منهم، ومن الدول العربية في الوقت الراهن أن يخوضوا معركتهم السياسية والدبلوماسية بمنتهى الثبات والقوة والشراسة إذا اقتضى الأمر، حتى لو اضطروا إلى تأجيل خطوتهم عدة أيام أو أسابيع لحين تغير تركيبة مجلس الأمن بدخول دول مثل ماليزيا وفنزويلا وخروج دول لا تتبنى ولا تساند وجهة النظر الفلسطينية، وقتها سيكون حصول الفلسطينيين على الأصوات التسعة المطلوبة لتمرير مشروعهم داخل مجلس الأمن أمرًا ممكنًا، وحتى لولجأت الولايات المتحدة إلى «الفيتو»- وهو السيناريو الأرجح حدوثه – وقتها يكون الفلسطينيون قد نجحوا في الحصول على الأغلبية المعنوية والأدبية التي تدعم تحركاتهم الدؤوبة في المحافل الدولية في المرحلة المقبلة.
وقد يبدو أن هذا هو السقف الذي يمكن أن تصل إليه الطموحات الفلسطينية في ضوء المعطيات الراهنة داخل المجلس ما لم تحدث تطورات أومحاولات مضادة، وهي محتملة جدًا لتجريد التحركات الفلسطينية من محتواها الجوهري فتحولها إلى مجرد دعوات وتمنيات على الورق أو تعيد الفلسطينيين والقضية إلى المربع الأول بإطلاق مفاوضات مباشرة مرة أخرى بمرجعيات جديدة تجعل حلم الدولة المستقلة يتبخر لسنوات عديدة مقبلة.
وأغلب الظن أن المقترحات أو الأفكار الفرنسية المطروحة على المجلس تصب في هذا الإتجاه، وتدعو إلى أفكار عامة إنشائية وفضفاضة دون نقاط محددة وتتمثل في المطالبة بالسلام والتعايش المشترك وتنتهي أيضا بحتمية المفاوضات المباشرة! وهو دورليس بغريب على الدبلوماسية الفرنسية التي طالما أجهضت طموحات عربية بمكاسب وهمية أو مسكنات تصب بشكل أساسي في خانة المصالح الغربية – الأمريكية وهو ما قد تجد فيه إسرائيل هذه المرة ملاذًا آمنًا جديدًا بمظلة أوروبية عكس كل التوقعات.فلينتبه الفلسطينيون ومعهم العرب جيدا، فقراردولي بتسعة أصوات و (فيتو) أمريكي أفضل بكثيرمن قرارأوروبي بلامضمون.