عبد الله بن علي العليان –
ترجع منطقة البليد الأثرية العمانية التي تقع شرق مدينة صلالة بمحافظة ظفار إلى عهد ما قبل الإسلام ، اكتسبت بعده رونقاً إسلامياً فريداً من البناء المعماري ، يظهر ذلك جلياً من خلال مسجدها الكبير الذي يعد من أبرز المساجد القديمة في العالم .
وقد زار الرحالة ابن بطوطة مدينة البليد لأول مرة في القرن السابع الهجري ، ثم زارها مرة أخرى بعد مضي عشرين عاماً بعد عودته من الهند، وبعض البلدان في القارة الآسيوية، ووصفها بأنها مدينة تكثر فيها المساجد وتصنع فيها أجود أنواع الحرير والملابس القطنية والكتان ، وتصدر أجود أنواع الخيول العربية إلى الهند ، حيث كانت مركزاً تجارياً في القرن الرابع عشر الميلادي بين الهند وساحل افريقيا الشرقي .
وأعيد تأسيس البليد في القرن الرابع الهجري في عهد دولة المنجويين ومؤسسها أحمد بن محمد المنجوي ، ويقال ان المنجويين نقلوا مقر ظفار القديمة من مرباط القديمة إلى البليد ، حيث كانت مرباط المرفأ الرئيسي لرسو السفن ، وقد لعبت البليد دوراً مهماً في النشاط التجاري ، وكان لها اتصال بالموانىء العالمية في ذلك الوقت مثل الصين وبلاد ما بين النهرين والهند والسند واليمن وحضرموت ، وبعض المدن العمانية مثل صحار وصور ، وقد ذكر الرحالة الإيطالي ماركو بولو الذي زار ظفار عام 1285م ، عن ازدهار تلك المدينة وجمالها وروعتها في كتاباته ، وقد أورد أن هناك حركة ملاحية نشطة مع الهند التي ينقل إليها التجار الخيول العربية مما يكسبهم مالاً وفيراً .
وقد عثر خلال الحفريات التي جرت في البليد على الكثير من الأواني الفخارية ، بالإضافة إلى عدد من الأعمدة المنحوتة من العصر الجيري .
أسوار مدينة البليد
جدد بناءها سنة 620هـ أحمد بن محمد الحبوضي بعد انتهاء حكم المنجويين في ظفار ، وأحاطها بأسوار كبيرة وتحصينات قوية ـ وبنى المسجد الكبير الذي يتحدث عنه المؤرخون . وكتب أحد الباحثين دراسة مستفيضة عن مسجدها الكبير حيث يوجد به ما يزيد عن 180 عموداً ، وبقيت آثاره في مدينة البليد ، أما الأعمدة فقد أخذت معظمها في فترات متباعدة في إنشاء مساجد أخرى بمدينة صلالة والحصيلة ومرباط .
ولم يكتب أحد الرحالة بالتفصيل عن مدينة البليد سوى هـ .ج كارتر حيث أعطى وصفاً تفصيلياً لظفار البليد حينما كانت الأطلال ما زالت واضحة . كما أنه قام بعمل رسم لتخطيطها لكن الكثير مما شاهده كارتر قد اختفى الآن مع مرور السنين ، وهجر الناس هذه المدينة إلى مدن أخرى أنشئت لاحقاً مثل الحصيلة وصلالة .
وقد اشتهرت مدينة البليد في ذلك الوقت بالتجارة الكبيرة مع الهند والصين ، وكانت السفن التجارية تجوب هذه المناطق مثل صحار وظفار وصور وبعض المدن التجارية العمانية ، حيث ازدهرت مدينة البليد تجارياً وسميت بأسماء مثل المنصورة والأحمدية والقاهرة .
ويقول بعض المؤرخين أنها أحيطت بأسوار عديدة ، وفيها أبواب عدة منها « باب الساحل » ويقع على البحر ، وبابان في الركن الشرقي من المدينة أحدهما يسمى « باب حراقة » ويصل إلى عين فرض ، وهي عين ماء عذبة أشار إليها بعض الرحالة ممن زاروا مدينة البليد الأثرية .
وهناك ايضاً باب يسمى « الحرجاء » ويقع على الجانب المحاذي لمدينة الحافة الحالية ومنطقة العفيف ، وفيها قرية كانت تعتبر سوقاً في ذلك الوقت وتسمى « قرية الحرجاء » وكان لمدينة البليد تحصين جيد بواسطة أسوار وبوابات قد عثر على ثلاث منها فقط أثناء عمليات التنقيب التي قامت بها وزارة التراث القومي والثقافة (سابقا) في مطلع السبعينات وأوائل الثمانينات .
أما فيما يتعلق بالبوابة التي تقع في منتصف سور المدينة الذي يقع بدوره على طول شاطئ البحر ، فإنها غالباً ما تكون جزءاً من نظام معماري أكثر تعقيداً ، حيث يضم بوابة أخرى لتكونا معاً ممراً منحنياً خلال السور .
وقد كانت البليد تسمى قبل أن تتكون أثرياً بوقت طويل ، باسم « ساحل جردفون » وهي تسمية محلية باللغة « الشحرية » وتعني البقعة الجرداء .
ومن المحتمل أن مدينة ظفار ( البليد ) في عصور ازدهارها كانت تضم الكثير من المنازل المنعزلة ، علاوة على العديد من الضواحي التي تمتد كثيراً فيما وراء حدود المنطقة السكنية الرئيسية التي سبق أو أشير إليها آنفاً ، ولقد اختفت معظم آثار هذه الضواحي وذلك لعدد من الأسباب ، منها التدمير والتعديل أو بسبب تداعيها بفعل الزمن وزحف النباتات .
المسجد الأثري
ومن بين المعالم المهمة والبارزة في مدينة البليد الأثرية المسجد الكبير الذي تم بناؤه في تلك الفترة ، ويضم ما يزيد على 183 عموداً وسارية حسب ما أكد باولو ام كوستا في دراسته « دراسة لمدينة ظفار» إذ قال :كان الرحالة الوحيد الذي زار ظفار قبل توماس وأعطى وصفاً للمسجد الكبير هو الرحالة هـ .ج كارتر وذلك في عام 1846 ، علما بأن رحالة وزواراً آخرين سبقوه في الزيارة لم يعطوا وصفاً لهذا المسجد ، من أمثال الرحالة « الموجان بنت » عام 1895م والرحالة » س.ب.مايلز « عام 1883م ».
ولقد أثمرت عمليات الحفر والتنقيب التي أجريت عن اكتشاف أن المنافذ الرئيسية إلى المسجد ، كانت من خلال حائط القبلة وبالتالي فإن هذا الجانب من المبنى اعتبر واجهة المبنى وقد زينته نقوش وزخارف ، وبالعكس فإن الجانب الآخر والذي كان المفروض أن يكون المدخل الرئيسي إلى المسجد ، نظراً لكونه قريباً من منطقة الوضوء ، لم تتعد أبوابه بابين اثنين ، ولم يحتفظ المحراب الكبير بتفاصيله المعمارية وذلك لسوء حالته .
ولم تثمر عمليات التنقيب والحفر إلا عن القليل من المعلومات التي تتعلق بالتفاصيل المعمارية والزخارف ، ويرجع السبب إلى أن الكثير من الأحجار والأعمدة و الأشكال الهندسية المعمارية التي أخذت من منطقة البليد استخدمت في إنشاء مساجد أخرى في صلالة وعوقد والحصيلة ، رغم أن الزخارف الموجودة تعطي نوعاً من الانعكاس البعيد للأشكال الزخرفية التقليدية المنتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وعلى مدى فترة طويلة من الزمن .
ويمكن وصف عمليات البناء والتشييد على أنها ذات نشاط وحيوية وتتصف بطابع الرفاهية والزخارف البهيجة في الأوقات التي سادت فيها التأثيرات الأجنبية ، وهو الأمر غير المستغرب في مدينة ساحلية لها ميناء يتعامل مع مختلف البلدان .
وقد قامت اللجنة الوطنية للإشراف على مسح الآثار في السلطنة والتي يترأسها الآن معالي عبد العزيز بن محمد الرواس مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية، بجهود كبيرة للتنقيب وترميم وتطوير الآثار في مدينة البليد بالتعاون مع جامعة آخن الألمانية وذلك بهدف تحويل هذا الموقع الأثري المهم إلى متنزه عام للزوار .
وقد تم رصف طريق داخلي في هذا الموقع للمشاة بطول 2200 متر وتزويده بإنارة وغيرها من الوسائل الأخرى الضرورية للتنزه وهناك مشاريع قائمة لتحويل بعض المواقع بمنطقة البليد الى متنزه سياحي بالعيد من المشاريع قيد التأسيس.
كما قام مكتب معالي مستشار جلالته للشؤون الثقافية في السنوات الماضية، بالعديد من التوسعات والإضافات واللمسات الأخرى لمنطقة البليد الأثرية من خلال الخبراء والمختصين في علم الآثار.
وقد تم افتتاح هذا الموقع الأثري منذ سنوات بعد تهيئته لاستقبال الزوار لمشاهدة آثار هذه المدينة العمانية التاريخية والتعرف على معالمها العربية الإسلامية الأثرية العريقة، كم تم افتتاح متحف اللبان بنفس هذا الموقع الأثرى بمنطقة البليد بصلالة في يوليو عام 2007م حيث ضم المعرض تاريخ عمان من العقود الغابرة الى عصر النهضة المباركة.