حمدة بنت سعيد الشامسية -
قبل سنوات تناولت وسائل الاعلام خبر اغتصاب فتاة مصرية في حافلة ركاب أمام الملأ دون أن يحرك أي من الركاب ساكنا، وشغلت تلك الحادثة وسائل الاعلام فترة من الزمن، وأشبعت تفسيرا وتحليلا، وكانت الصدمة في أنها حدثت في مصر، بلد الصعايدة والدم الشرقي الحار، حيث الغيرة والشهامة متأصلة في دم المصري، فكيف يحدث أمر كهذا في مصر بالذات؟!
كانت تحكي لي الموقف بشيء من الصدمة ، فقد كانت في إحدى الأماكن العامة تنتظر دورها مع بقية المراجعين، عندما همت باخراج زجاجة دهن عود صغيرة اعتادت الاحتفاظ بها في حقيبتها كدواء لنوبات الصداع التي تتعرض لها بين حين وآخر، عندما قفزت إحداهن من كرسيها تهيل لها الشتائم والكلمات البذيئة أمام مسمع ومرأى من الجميع، عقدت الدهشة فاها، وكانت صدمتها أكبر في الجمهور الذي كان يتصرف وكأنه لم يسمع أو يرى شيئا، أكثر من صدمتها من تلك المرأة التي ثارت ثائرتها بدون أي سبب، وتهجمت عليها بدون سابق معرفة.
كانت أذني الصغيرة تلتقط الكلمات الغاضبة التي كانت تصدر من الرجال في مجلس والدي منذ سنوات طويلة، والتي فهمت من خلالها بأن أحدهم تعرض للإهانة من قبل شخص آخر، لكنه لم يستطع أن ينتقم لكرامته، مما اثار حنقه وغيظه، وكان يقسم بالله العظيم أنه لو كانت هذه الواقعة قد حدثت (زمان الرجال) لكان قد افرغ (سكتونا) في كرش غريمه.
سقط مغشيا عليه في سيارته أمام هايبرماركت في قلب العاصمة مسقط، قبل أن يتاح له الترجل من سيارته، وظل لأكثر من نصف ساعة في سيارته، دون أن يبادر باسعافه أحد من المارة، الذين كانوا يكتفون بالقاء نظرة سريعة عليه ويمضون.
قبل سنوات استعرضت انعام كجه جه في جريدة الشرق الأوسط كتاب الصحفي الفرنسي تييري ديجاردان عنوانه «كفوا عن ازعاج الفرنسيين»، وقد وردت عبارة في الكتاب مفادها «كثرة القوانين في فرنسا تجعل المرء يفطس» وقد استقى المؤلف عنوان كتابه من عبارة للرئيس جورج بومبيدو حين تقدم اليه احد مساعديه بمجموعة من المراسيم لتوقيعها فصاح عليه «كفوا عن ازعاج الناس! ان هناك الكثير من النصوص والقرارات والقوانين في هذا البلد بحيث تكتم الانفاس. دعوا الفرنسيين يتنفسون قليلا وسترون ان كل شيء سيسير على ما يرام»، ما حدا بالمؤلف حينها إلى إصدار كتابه ذاك هو اعداد النصوص القانونية التي تحكم حياة الفرنسيين بحيث بلغت 8500 قانون، و120 ألف مرسوم وقرار، و380 ألف نظام، عدا عن 20 ألف قانون اوروبي جديد تسري في فرنسا، ويقول المؤلف «انهم يفترضون في المواطن ان يلم بكل هذه الالاف المؤلفة من القوانين والتعليمات، لان الجهل بالقانون لا يعفي من العقاب»، ويخلص ديجاردان الى القول ان كثرة القوانين تحيل حياة الانسان عذابا، وتعيده الى شريعة الغاب.
يقول علي عزت بيجوفيتش “إن كثرة القوانين في مجتمع ما وتشعبها والتعقيدات التشريعية علامة مؤكدة على وجود شيء فاسد في هذا المجتمع، وفي هذا دعوة للتوقف عن إصدار مزيد من القوانين والبدء في تعليم الناس وتربيتهم”
المتفحص للشأن المحلي يجد أننا نسير في الاتجاه ذاته، إذ لا يمر شهر دون أن تطالعنا الصحف بمرسوم أو قانون جديد ينظم (شأنا) جديدا من شؤوننا، بعد أن انسلخنا من الأعراف والتقاليد العمانية الأصيلة التي كانت تشكل القانون الأول والأقوى في حياتنا كعمانيين، لا يجرؤ على مخالفتها أحد.
لكن هذه القوانين علمتنا طرق الاحتيال والتحايل التي بتنا نتفنن في اكتشافها، من أجل الحصول على قطعة أرض لا نستحقها، أو منحة باحثي عن عمل لا تنطبق علينا شروطها…الخ
قال لي أحد المحامين يوما بأنه ظهرت لدينا فئة (تترزق) من قضايا (إهانة الكرامة) ممن يترصدون بالابرياء من أجل (500 ريال) يقبضونها لأجل التنازل عن حق لم ينشأ أصلا.
كما صدرت قوانين لحماية بناتنا من تعسفنا في الامتناع عن تزويجهن لمن ارتضين دينه وخلقه، طمعا في الراتب الذي يحصلن عليه البنات، لأننا أقنعنا أنفسنا بأنه (حقا) لنا مقابل منحهن الحياة.
في بيئة العمل لم نعد كقيادين نستطيع اتخاذ قرار إداري بسيط إلا باستشارة دوائر التدقيق والمخاطر والدائرة القانونية وغيرها من التقسيمات الادارية التي استحدثت لحماية المؤسسة والمسؤولين فيها من القضايا التي امتلأت بها أدراج محكمة القضاء الاداري، لموظفين أنشأوا لأنفسهم حقوقا في المناصب القيادية، والترقيات المالية، والبعثات الدراسية، واصبحوا ينالوها بحكم القانون رغم تعارض ذلك مع أهم مبادئ الادارة.
أصبح (القرار) سواء في الحياة الخاصة، أو العملية، محفوفا بالمخاطر، فلا يعلم المرء من اي جهة ستأتيه (تهمة) مخالفة قانون ما.