فريدريك ستار -
ترجمة قاسم مكي – واشنطن بوست -
على مدى يزيد عن عشرة أعوام ظلت الولايات المتحدة تتقرَّب الى العالم الإسلامي وتتودَّد إلى المعتدلين الإسلاميين وفي ذات الوقت تخوض حربا مع المتدينين المتطرفين. وقد تركَّزَت جهود واشنطن في معظمها على الشرق الأوسط ولكن بقدرٍ ضئيل من النجاح. ربما أن الأمريكيين سيُحسِنون صنعا إذا وَلُّوا وجوههم شطر منطقة أخرى لها حق مساوٍ في الادعاء بأنها مركز حقيقي للإسلام.
إنها تلك البلدان الجديدة على طريق الحرير القديم العابر لآسيا الوسطى. وفي حين يتواصل العنف في سوريا والعراق وأفغانستان فإن بلدان الاتحاد السوفييتي السابق التي هي إسلامية في معظمها (كازاخستان وقرغيستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان) تخوض تجربة الحكم العلماني والأسواق الحرة.
لقد شهدت جهودها بدايات غير منتظمة. ولكن على الغرب إدراك أن صراعها للتصالح مع الحداثة ينطوي على ممكنات ضخمة للعالم الإسلامي في مجموعه. وربما سيشكل (ذلك الصراع) يوما ما نموذجا لتعزيز السلام بين البلدان المتحاربة. ولكن واشنطن لا تزال سادرة في التقليل من أهمية هذه البلدان الثقافية وأثرها المحتمل. لقد بدا معقولا أن تركز الولايات المتحدة على العالم العربي في الأعوام العاصفة التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر. فالشرق الأوسط فوق كل شيء كان مصدرا لأكثر التيارات الإسلامية تشددا. بجانب ذلك فقد بدأ أن أهمية مكة والمدينة والقاهرة والقدس تبرر الافتراض بأن معركة كسب قلوب وعقول المسلمين ينبغي أن تُشن في هذه المنطقة. وقد امتدح الرئيسان جورج دبليو بوش وباراك أوباما الإسهامات العلمية والروحية التي قدمها العالم العربي للإنسانية. ونصح كلا الرجلين الشعب العربي بتبني الإسلام الحقيقي الذي يحبذ التسامح الفكري ويحتضن المعرفة العلمانية.
ولكن في مواجهة كلماتهما التي تعبر عن رغائبهما نُواجَه بحقيقة أنَّ عدد الكتب الأجنبية التي تُترجم وتنشر في الشرق الأوسط برمَّته أقل من تلك التي تجد حظها من الترجمة والنشر في اسبانيا لوحدها. كما يبدو أنَّ أيّاً من الرئيسين لا يدرك أن العديدين من أعظم عباقرة القرون الفاصلة بين سقوط الامبراطورية الرومانية والنهضة الأوروبية لم يكونوا في الواقع عربا رغم أنهم كتبوا مؤلفاتهم باللغة العربية. إذ على مدى فترة تقرب من ألف عام كانت آسيا الوسطى نقطة التقاء الاقتصادات المرتكزة على التجارة والثقافات العظيمة للشرق الأوسط وأوروبا والهند والصين. ولم يكن يوجد آخرون أفضل تموضعا (في المكان) من الناس الذين عاشوا على طول طريق الحرير العظيم لدراسة وتحسين الأفكار والاختراعات وفنون الصناعة حول منطقة أوروآسيا. هكذا ولعدة قرون كانت آسيا الوسطى (وليس الشرق الأوسط العربي) هي المركز الفكري والسياسي للعالم الإسلامي. فأحد كتب الأحاديث النبوية (التي تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن) جمعه عالم من بخارى في أوزبكستان الحالية (الإمام البخاري).
وفي أماكن مثل كازاخستان وطاجيكستان وأوزبكستان وجدت حركة التصوف القوية في الاسلام أعظم شُرَّاحها. ومن هناك انتشرت حول العالم الإسلامي. ومن بين علماء لاهوت القرون الوسطى فإن قلة هي التي تفوق أبو حامد الغزالي من بلدة طوس على المنطقة الحدودية بين إيران وتركمانستان وأفغانستان. وقد كان له تأثير ضخم على القديس توما الأكويني. ويمكن لآسيا الوسطى أيضا أن تدعي نصيب الأسد من الأسماء العظيمة في العلوم والفلسفة الاسلامية. فمدوِّن علم الجبر الذي أشار إليه أوباما في خطابه عن « البداية الجديدة» في جامعة القاهرة في 2009 أيضا من خوارزم في ما يسمى الآن أوزبكستان. وقد اشتقت من اسمه (الخوارزمي باللغة العربية) تسمية اللوغريثمات التي تقع في القلب من علم الحاسوب الحديث.
أيضا من أوزبكستان نجد ابن سينا والذي يعرف في الغرب باسم (أفيسينا). ولقد كان مؤلفه العظيم « قانون الطب» وراء نهوض العلوم الطبية في الشرق الأوسط وأوروبا والهند. ومفكر عظيم آخر هو الفارابي الذي أحيا منطق أرسطو وأضاف إليه إضافة عظيمة وكتب أعظم دراسة للموسيقى في القرون الوسطى. وهو ينتمي إلى ما يعرف الآن بكازاخستان. وهناك رائد علم الفلك أبو محمود الخجندي من خجند في طاجيكستان الحالية. صحيح أن كل هؤلاء الناس كتبوا مؤلفاتهم باللغة العربية. ولكن الياباني الذي يكتب باللغة الإنجليزية ليس رجلا إنجليزيا. فهم كلهم (وعشرات آخرون من المبتدعين في العالم الإسلامي) الذين اعتدنا على الاعتقاد بأنهم عرب ينتمون لمختلف فروع شعوب تلك المنطقة وليسوا عربا.
واليوم فإن البلدان التي ورثت طريق الحرير القديم تصارع لاستعادة موروثها. والمهمة ليست سهلة. فالعديد من زعمائها انجذبوا نحو حكم الاستبداد الذي حقق استقرارا نسبيا لروسيا وازدهارا هائلا للصين. إن شعوب آسيا الوسطى لا تملك تجربة سابقة في الديمقراطية ولا تزال توجد بها توترات عرقية كما أن العديد من قادتها طغاة. ولكن تظل هذه البلدان دولا علمانية وأكثر تسامحا تجاه الأديان الأخرى من معظم نظيراتها في الشرق الأوسط. لقد حققت اقتصاداتها نموا مطردا وتبنت تعليما علمانيا حديثا وأرسلت عشرات الآلاف من الشبان للدراسة في الخارج. وهي تتولى تطوير جامعات جديدة تخصها وتقتبس في معظمها النموذج الأمريكي. ويستخدم العديد منها الانجليزية كلغة تعليم. وكلها يمكنها الافتخار بجيلٍ صاعد من الرجال والنساء الذين انجذبوا لمبادىء المجتمع المفتوح.
ولسوء الحظ ففي نظر العديد من آسيوي آسيا الوسطى لا تمتد مصالحُ أمريكا إلى أبعد من النفط والغاز. وعلى الأرجح أن يؤدي قرار واشنطن بالانسحاب من أفغانستان في عام 2014 إلى تآكل النفوذ الأمريكي في ذات اللحظة التي يمكن له أن يحقق فيها أفضل خير، خصوصا مع تزايد ضغط الازدهار المتنامي على الحكومات للتخفيف من قبضتها. إن المزيد من الحرية يأتي بمخاطر كبيرة كما أثبتت ذلك على نحو مؤسف احباطات الربيع العربي. ولكن ربما أن آسيا الوسطى وليس الشرق الأوسط أو باكستان أو أندونيسيا هي التي ستشهد في السنوات القادمة أنشط المساعى لتطبيق المبادئ التي تبناها كل من الرئيسين بوش وأوباما. وهذا لا يعني الإيحاء بأن واشنطن تولي اهتماما أقل للعالم العربي ولكن ربما أن الوقت قد حان كي ننصت إلى محاضراتنا نحن أنفسنا حول احتمالات تحقق انفتاح سلمي وفكري للمسلمين ولدعم تلك المجتمعات التي تحاول وتحرز أكبر نجاح في ذلك الانفتاح اليوم.
* الكاتب رئيس مؤسس لبرنامج معهد آسيا الوسطى والقوقاز وبرنامج دراسات طريق الحرير بمدرسة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة. له كتاب بعنوان «التنوير المفقود: العصر الذهبي لآسيا الوسطى من الفتح العربي وحتى تيمورلنك».