كتبت : سجا العبدلي -
صدرت حديثًا عن منشورات ضفاف ودار الاختلاف، رواية «طابق 99» للكاتبة اللبنانية جنى فواز الحسن، التي وصلت روايتها «أنا وهي والأخريات» إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة بـ«البوكر» لعام 2013. في إصدارها الجديد، تخلع الكاتبة عباءة «النسوية» كلياً ليكون الراوي الأساسي في العمل رجلا ولتخوض في قضية شائكة تمتد أحداثها بين لحظة مفصلية في مجزرة صبرا وشاتيلا سبتمبر 1982 ونيويورك عام 2000. تسأل الرواية عن نظرة الآخر إلى الفلسطيني، بعيداً عن الشعارات وأوهام التعاطف لتذهب بفجاجة إلى النظرة الواقعية الّتي تنظر فيها ذهنية الجماعة إلى الحلقة الأضعف، أي الشعب الذي يعيش التهجير والاحتلال منذ 1948. وتخرج في الوقت نفسه من تصوّر الضحية الذي يرافق الفلسطيني في خيبته الداخلية.
تستند أحداث الرواية على قصة حب بين «مجد» الفلسطيني الّذي يحمل ندبة في وجهه ويعرج من رجله بسبب إصابته في المخيّم و»هيلدا» المسيحية الّتي تحارب الماضي بالرقص. تمتد ندبة «مجد» إلى أبعد من مجرد تشوّه في الوجه وتصبح أشبه بوصمة الذاكرة والهوية على خدّه الأيسر، كذلك يبدو تعثّره في المشي تعثّراً يشبه شعباً يتخبّط في مكانه ولا يستطيع أن يمضي قدماً لأسباب داخلية وأخرى خارجة عن إرادته.
هي رواية المصائر المعلّقة، إذ تبدو جميع الشخصيات، من إيفا المكسيكية الهاربة من بلادها إلى ماريان الأمريكية الّتي تبحث عن رفات «جون» في لاجدوى الحرب، وإلى والد مجد الذي يرفض أن يسلّم بموت زوجته وجنينها في المجزرة. يتضح لاحقاً أن الأب، الّذي قد يبدو واهماً في محطات عدة من كلامه، لا يعيش فعلياً في حالة إنكار. إنّه فقط يحاول أن يبقي بعض الأمل بإعادة الحياة إلى الأمّ، الأمّ الكبرى «فلسطين»، كأنّ عدم الاعتراف يشكّل وصية لابنه بألّا ينسى أنّ موطنه هناك.
لا تنجو «هيلدا» من الشك أيضاً فهي تستمر بالبحث عن إجابة واضحة حول إذا ما كان الفلسطينيون هم من دفعوا بعمّها إلى الانتحار أثناء الحرب. تسأل إن كان المكوّن المسيحي، الّذي خاض الحرب بدموية، كأحزاب وتنظيمات كثيرة من مختلف الطوائف، نادماً على قراره القديم. تسأل إن كان المقاتل «يتوب» فعلاً وإن كان من حق جيلها أن يحاسب الجيل القديم على ما اقترفوه. تنتقل الكاتبة من المخيم إلى جبل لبنان ونيويورك، من دون أن تفقد وحدة الموضوع. وتضع أعلى قوى العالم في الطابق 99 في مواجهة مخيّمٍ يضطر ساكنوه أن يصعدوا إلى سطحه لكي يروا الشمس، معتمدة لغة متينة لتحيط معضلة الحرب والشتات والهوية من كافة زواياها، النفسية والسياسية والاجتماعية.
عن عملها الروائي الجديد، تقول الحسن إنّه شكّل تحدّيا خاصا كبيرا بالنسبة لها: «أجبرتني الرواية على الخروج من نفسي إن صحّ التعبير وأن أخوض عالماً غير اعتيادي ولكن في صلب همّنا العربي».
وتضيف: «الرواية تنطلق عندي عادةً من سؤال ثمّ أتركها لتقودني حيث تشاء. السؤال الأساسي هذه المرّة كان عن قدرة الأشخاص الّذين هم أقلّ حظّاً أو الذين ورطتهم الحياة في مأزق ما وسلبت منهم ركيزة أساسية في حياتهم سواء كانت الوطن أو العائلة أو الجسد المتكامل على أن يقودوا حياةً طبيعية. قادني هذا التساؤل إلى موضوع حسّاس يمسّ النسيج اللَبناني والنسيج العربي، متعلّق بالشتات والغربة والتعايش مع الفقد ومصير الإنسان المعلّق بين براثن الماضي وغموض المستقبل. وجدت نفسي أيضاً أمام أبطال بحاجة إلى نبش الذاكرة الجماعية، أو بالأحرى إلى جيل يسائل من سبقه عن مفاهيم متعلّقة بالحرب والعلاقة مع الآخر النقيض».
وعلى الرغم من انّ الرواية تستند على قصّة حب، تشير الحسن إلى أنّها انطلقت من العشق فعلاً «لكنّ الحب في مجتمعاتنا أكثر تعقيداً مما نعتقد ويكاد يكون خليطاً بين الدين والسياسة والحروب والخوف والرغبة والخسارات والذاكرة المثقلة بالمآسي. بقي بين طيّات الأوراق حكايا كثيرة وسؤال عن الحب والوطن. ولا أدري إن كانت الإجابة فعلاً موجودة». وعن توقيت إصدارها الجديد الّذي يأتي بعد عامين من صدور «أنا، هي والأخريات»، تقول الكاتبة إنّها بدأت الكتابة بعد مدة قليلة من صدور روايتها السابقة: «لقد صدرت الرواية الآن بكل بساطة لأنّني وصلت إلى مرحلة الاقتناع بها بعد مراجعاتي الطويلة. الصعوبة الّتي واجهتني كانت إطلاق سراح الشخصيات لأنّي تعلّقت بهم جداً أثناء كتابة العمل». وتضيف: «أشعر دائماً، وقد يكون شعوراً غير مبرر أو منطقي، أنّ الوقت قد يداهمني من دون أن يتسنّى لي كتابة كلّ ما أريد كتابته. وبي في الوقت نفسه حاجة ملحة لايجاد التجارب الجديدة، كأنّي أعيد تكوين نفسي بطريقة أو بأخرى أو حتّى ردمها كلّيّاً. ربما يغنيني هذا القلق وإن كان في الوقت نفسه موجعاً. في أنا، هي والأخريات، كنت امرأة معنّفة وأخرى متوترة وأب يعيش على أنقاض الشيوعية. وفي طابق 99، أنا رجل وحبيبته، باختلافهما، وزعيم ميليشيا وفدائي خائب وغيرهم. التجربة تختلف طبعاً، لكن ما يبقى ثابتاً هو الوفاء للكتابة والسعي إلى المزيد من الصدق تجاهها».