خواطر دعوية: المهارة المنسية

مليكة السيابية -

لعل حوار داعية غير معروف بين الجماهير، أقوى من ألف خطبة في التأثير.. ذلك أنَّ الحوار الراقي الذي يتصف به الداعية بشمائل الأنبياء أدعى إلى التأثير والإقناع والاستمالة.. وإنشاء الدافع في نفس المخاطب إلى العمل.. إنه الإصغاء.. وبالإصغاء -المهارة التي يهملها الجميع- تلين القلوب وتصفو، وتجلو عنها الأوهام، لأنك حين تحترم عقل مُحاورك أيًا كانت شطحاته، وتقدِّرُ أن اجتهاده وهواه أوداه إلى ما آل إليه.. فتشفق على حاله، وتدعوه إلى الصراط المستقيم، ثم تترك له حرية الاختيار.. ثِق حينها أنَّك غرست فسيلة البحث عن الحقيقة في فؤاده.. وأمّا الهداية فإن صح فكره.. هَداه إلى العلم، وإن اهتدى إلى العلم، أنار الله بصيرته إلى الإيمان « وإن الله لهادِ الذين آمنوا إلى صراط مستقيم».. فالهداية تحتاج إلى إعمال عقل فطن، واجتهاد قلب سليم.. وكيف للداعية أن يدفع مدعوه إلى ذلك إلا إذا احترم عقله، وصبر على أذاه، ووجههُ بأفضل أسلوب.. ليستطيع التأثير في نفس مدعوه بالشمائل النبوية، فهو أولى الناس بتتبعها، كونه يرثُ الأنبياء في رسالتهم السامية..

عاد بغير الوجه الذي ذهب به:

واستمع أخي لحوار عتبة بن المغيرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأمّل كيف يؤثر الإنصات على المُحَدِّث فيهز قلبه من جميع جوانبه.. قام عتبة ابن ربيعة _وكان سيداً_ قال يوماً وهو جالس في نادي قريشٍ ورسولُ الله جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون، ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول الله فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من السلطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتَهم، ودينَهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال: فقال له رسول الله : قل يا أبا الوليد أسمع.

قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به مُلْكاً مَلَّكْناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّاً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيه أموالنا، حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل، حتى يُداوى منه، أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه.

قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاستمع مني، قال: أَفْعَلُ..

قال: بسم الله الرحمن الرحيم (حم (1) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ثم مضى رسول الله فيها، وهو يقرأها عليه.

فلما سمع عتبةُ أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره، معتمداً عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله إلى السجدة منها، فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك.

فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد، قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني، واجعلوها لي خَلَّوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تُصِبْهُ العربُ فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهرْ على العرب فَملْكُه ملككُم، وعزُّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.قالوا: سحرك -والله- يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.. لقد كان لاستماع الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم أبلغ تأثير على قلب عتبة، فكم استفز عتبة في حديثه الرسول صلى الله عليه وسلم بافتراضاته البلهاء، ولكنها شمائل محمد صلى الله عليه وسلم، هيأته للاستماع فالاقتناع.وانظر للرسول عليه الصلاة والسلام يكنيه بأحب الألقاب إلى قلبه: يا أبا الوليد.. إن في النداء احتواءً وحضنًا وملاًذًا يطمئن إليه المحاور مع من يخالفه..


الإصغاء أولاً:

على الداعية البارع أن ينصت أولا لمن يدعوه لأنه بذلك يفهم مفتاح شخصيته، ويعرف من أي باب يلج إلى قلبه، فالإنصات وهو توجيه تركيزك للمعلومات التي يرويها المتحدث بعفوية وسلاسة.. يختصر عليك الكثير من الأوقات.. وقد استنتج الباحثون أن قطاع الأعمال الأمريكي يخسر مليارات عدة من الدولارات بسبب الإصغاء غير الفعّال، حيث تعاد طباعة الكثير من الرسائل، ويتم إعادة جدولة المواعيد، وإعادة شحن البضائع المشحونة، بسبب عدم فهم وتلبية احتياجات الزبون الحقيقية من الأفراد والشركات، ويشعر الموظفون بالغضب والاستياء ويتم إلغاء أكثر من ثمانين بالمائة من الأفكار عبر قنوات التواصل، كما أن التعارضات والاختلافات غير الضرورية تشتت العمليات الإدارية وتخفض الإنتاج..

ويتعجب الباحث في مجال التعليم والتدريب الاستاذ عمران في مقال له بعنوان أهمية الإصغاء: «وأنت كمتكلم أو كمستمع أو ككاتب أو كقارئ تنفق وقتاً كبيراً في الإنصات أكثر من أية أنشطة أخرى تقوم بها، فعلى سبيل المثال ينفق طلاب الجامعات حوالي 53% من وقت تواصلهم في الإنصات… فأنت تنصت لوالديك، مُعلميك، أصدقائك، التلفاز، الراديو، الأفلام، وكثير من الأصوات من حولك. وبالرغم من أن الإنصات يسيطر على الكثير من وقتك فإنك على الأغلب تعلم القليل عن هذا النشاط مقارنة ببقية أنشطة التواصل، وعلى الأغلب أنك لم تأخذ دروساً عنه بالرغم من أنك حضرت الكثير من الدروس لتتعلم القراءة والكتابة، وباختصار: لقد حصلت على أقل تدريب لأكثر نشاط تقوم فيه، ولا بد أن تعلم أن معظمنا مُستمعين غير فعّالين! ولهذا تقول الإحصائيات بأننا إذا سمعنا محاضرة ما فإننا نتذكر 50% مما سمعناه نفس اليوم، وأننا بالكاد سنتذكر 25% منها بعد يومين….»

العلم يبدأ بالاستماع:

فليعلم الداعية أنَّ أول كلمة من القرآن لامست أسماع الدنيا كانت «اقرأ»، والعجيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقرأ، ولا الصحابة من حوله يقرأون..

فالقراءة هنا هي القراءة المسموعة، فقد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام الوحي، ثم سمع الصحابة من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فسمعوا ووعوا، فأزهر الوعي في قلوبهم العلم والفهم، وأورثهم الفلاح والعمل. فبالاستماع تبدأ أولى خطوات التعلم، ودائمًا الخطوة الأولى هي الأهم.. قال أحد حكماء العرب: «إذا جالستَ العلماء فأنصت لهم.. وإذا جالست الجُهَّال فأنصت لهم أيضاً؛ فإن في إنصاتك للعلماء زيادة في العلم، وفي إنصاتك للجُهَّال زيادة في الحلم»..!