حوار: الداء الخبيث

عبدالله بن علي العليان -

أيضاً شغلت آيات القرآن الكريم حيزاً كبيراً للحوار مع المنافقين ومجادلتهم، لذا نجد أن الإسلام، أنكر النفاق والمنافقين، واعتبر النفاق داءً خبيثاً في المجتمعات، ويدخل ضمن الأخلاق الذميمة، كالغدر والكذب، والخيانة، والرشوة، والتجسس والنميمة، والفجور، والجبن وهذه كلها شرور لا يستهان بها. ولقد ذاق المسلمون الأمريّن من هؤلاء على الرغم من انهم يزعمون أنهم هدفهم الإصلاح وليس غيره ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ( البقرة الآيات 11 ـ 13 . ويقول ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآيات إن الله سبحانه وتعالى صوّر « حيرة المنافقين وتذبذبهم، فهم في أمر محيّر، لا يحسدون عليه. يتخبطون بين ريب وشك، لأنهم ضعفاء في تفكيرهم ومعتقداتهم، حتى في ما بين أنفسهم وبينهم، وبين الله تعالى ورسوله، وأمر البعث، على الرغم من أنهم يدعون أنهم يحسنون صنعاً، وأنهم هم المصلحون حقاً. والحقيقة أنهم يفسدون لأن قولهم هذا مجانب للحقيقة، ويعتبر عين السفه، حيث إن السفيه يفسد من حيث يرى أنه يصلح، ويهدم من حيث يرى أنه يبني، وهذا حال المنافقين وما هم عليه. ولهذا وصفهم الله تعالى بقوله: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)، وبقوله: (ألا إنهم هم السفهاء).

لقد واجه الإسلام عند بزوغ فجره الشرك والمشركين في مكة، وقد عانى الإسلام من هؤلاء ضعف ما عاناه من الكفار والملحدين، ومن أهل الكتاب، حتى أن الحوار معهم اتسم بالصعوبة نظراً للعقليات التي سادت في ذلك الوقت، و انغلقت على شركها وعاداتها وتقاليدها البائدة.

وقد جاء الحوار معهم في أنقى صورة بياناً وبرهاناً على هزالة عقيدتهم وضحالة منهجهم الشركي، لذلك جاء الحوار معهم ـ كما صوّره القرآن الكريم، «باعتماد الجانب العقلي فيه ـ إذا صح التعبير ـ فهو يرتكز على رفض ألوهيتهم ـ في البداية ـ من خلال تجريدها من صفة الألوهية المتمثلة في الخلق والقدرة المطلقة والأزلية، وغير ذلك.. ثم يضيف إلى ذلك الإمعان في تجريدهم من كل الصفات التي توحي للإنسان بأيّ نوع من أنواع الاحترام، مما يضعهم موضع السخرية في إطار الكيان الذاتي، فضلاً عن مركز الألوهية العظيم.

ويتمثّل هذا الأسلوب في الآيات الكريمة:

1 ـ ( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون، وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون، إن الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، ألهم أرجلٌ يمشون بها أم لهم أيدٍ يبطشون بها أم لهم أعينٌ يبصرون لها أم لهم آذان ٌ يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون).

2 ـ ( واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشورا).

أيضاً من الاستدلالات الرائعة في القرآن الكريم الأسلوب والطريقة في الحوار المتعلق بتفنيد الرأي المخالف ودحضه والإتيان بالرأي الصائب والحجة الثاقبة، وهذا ما نتأمله في الآيات التالية في قوله تعالى: (نحن خلقناكم فلولا تصدقون، أفر أيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون، نحن قدرّنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدّل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون، ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون، أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكّهون، إنا لمغرمون بل نحن محرومون، أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون، أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون، نحن جعلناها تذكرةّ ومتاعاً للمقوين، فسبّح باسم ربك العظيم). وهناك آيات كثيرة تبرز جوانب من حوارات الأنبياء ـ عليهم السلام ـ مع أقوامهم، تنكر عليهم التقليد الأعمى، واتباع الحق والرأي الصائب ،والحكمة الطيبة، ومن هذه الآيات : (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون). وفي هذه الآيات التي فيها دعوة حوار صريحة إلى « نبذ التقليد ودعوة الفرد إلى إدراك مسؤوليته والوعي بمصيره، تأصيل لمبدأ حرية الاعتقاد، إذ التقليد نقيض الحرية فهو خضوع لسلطة اجتماعية أو عصبية أو قبلية، ففي دعوة القرآن إلى نبذه دعوة إلى الحرية، والتقليد رديف الإكراه في الدين، فالإكراه دعوة المكره إلى ممارسة التقليد، فإذا كان التقليد منفياً فإن الإكراه منفي بطبيعة الحال» من هنا نرى أن مشروعية الحوار في القرآن الكريم بابها واسع ومجالها رحب، وهذا ما عرضناه من الحوارات السابقة سواءً حوار الخالق ـ عز وجل ـ مع خلقه أو الأنبياء مع أقوامهم أو الحوار حول الخلق والبعث وغيرها من الحوارات العظيمة التي جاءت في القرآن الكريم.