القضاء أمر لازم لقيام الأمم، ولسعادتها وحياتها حياة طيبة، ولنصرة المظلوم، وقمع الظالم، وقطع الخصومات وأداء الحقوق إلى مستحقيها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد، كي يسود النظام في المجتمع فيأمن كل فرد فيه على نفسه وماله، وعلى عرضه وحريته، ومن ثم يزيد الإنتاج ، فتنهض البلدان، ويتحقق العمران، ويتفرغ لما يصلحهم دنيا ودينا، فإن الظلم من شيم النفوس، ولو أنصف الناس لاستراح قضاتهم.
يقول السيد سابق في كتابه «فقه السنة» :من أهم الوسائل التي يتحقق بها القسط وتحفظ الحقوق وتصان الدماء والأعراض والأموال هي إقامة النظام القضائي الذي فرضه الإسلام وجعله جزءا من تعاليمه وركيزة من ركائزه التي لابد منها ولا غنى عنها .
والقضاء يكون في جميع الحقوق سواء أكانت حقوقا لله أم حقوقا للآدميين. وقد أفاد ابن خلدون :” إن منصب القضاء استقر آخر الأمر على أن يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أحوال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه. وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد أوليائهن على رأي من يراه. والنظر في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود والامناء والنواب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجراح ليحصل له الوثوق بهم، وصارت هذه كلها من متعلقات وظيفته وتوابع ولايته».
ولا يقضي بين الناس إلا من كان عالما بالكتاب والسنة فقهيا في دين الله قادرا على التفرقة بين الصواب والخطأ. بريئا من الجور بعيدا عن الهوى. وقد اشترط الفقهاء في القاضي أن يبلغ درجة الاجتهاد فيكون عالما بآيات الأحكام وأحاديثها، عالما بأقوال السلف ما أجمعوا عليها وما اختلفوا فيها، عالما باللغة وعالما بالقياس، وأن يكون مكلفا ذكرا عدلا سميعا بصيرا ناطقا.
كما يوضح الدكتور رمضان المحلاوي في كتابه «من أخلاق الإسلام»: إن القضاء من عمل الرسل عليهم السلام قال تعالى: { يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} سورة ص الآية26.
ورسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة الخاتمة والدائمة كما كان مأمورا بالدعوة والتبليغ كان مأمورا بالحكم والفصل في الخصومات، وقد ورد في القرآن الكريم في غير آية ما يشير إلى ذلك منها قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} سورة المائدة الآية 48، وقوله تعالى: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} سورة المائدة الآية42.
ومن السنة أحاديث منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» رواه البخاري. وعن أبي هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : “من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار «رواه أبو داود . وعن عبد الله بن أبي أوفى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال :” إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى الله عنه ولزمه الشيطان».رواه ابن ماجه والترمذي.
إن الإسلام يكفل للقاضي العزة والكرامة والهيبة، فهو يعطيه منزلة رفيعة لدى الحكام ، ولدى رجال الدولة ، لا يطمع فيها خاصة القوم وصفوتهم ليأمن بذلك الطعن به من حيث لا يدري، وذلك لأن مكانته وخطورته تجعلان الآخرين غير مجترئين على النيل منه، ولقد بينت الشريعة الإسلامية أن القاضي مستقل في قضائه ليس لأحد عليه من سبيل، وكان قضاء النبى صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى لصيانة الحقوق، والتسوية بين الخصوم والحرص على إقامة الحدود بين الناس، مهما كانت منزلتهم، قال ابن عبد السلام يصف قضاة الإسلام العادلين: وربما كان بعضهم يحكم على من ولاه، ولا يقبله عن شاهد عنده، إن نصوص الشريعة وقواعدها العامة تمنع ولاة الأمور في الدولة من التدخل في القضاء لتوجيهه لصالح أحد الخصوم ،لأن في هذا ظلما والظلم كله محرم ، والنظام الإسلامي يتقيد بصفة عامة في كل أصوله وفروعه ومظاهره بمشروعية عليا هي العدل القائم على التوحيد، والتوحيد ليس بالقول فحسب بل بالعمل الذي يصادقه، هذا العمل هو تنفيذ ما أمر الله به، ومنع ما نهى الله عنه، وذلك على وجه التضامن بين الناس، ومن مقتضى ذلك أن تكون أوامره سبحانه وتعالى ونواهيه مصدرا للحق والعدل، فما أمر به هو الحق والعدل، من أجل ذلك أحاط الخلفاء الراشدون ورؤساء الدولة الإسلامية القضاء بكل مظاهر الإجلال والتكريم، وصانوه عن التدخل ضمانا للحق فلم يسعوا إلى تحويل الأحكام لصالحهم ، أو لصالح من يحبون ، وإنما كفلوا لأحكام القضاء الاحترام والنفاذ، فكانوا يقبلون الأحكام الصادرة ضدهم راضين، وينفذوها طائعين ، يروي أبو يوسف – وهو من أفذاذ القضاة- عن نفسه أنه جاءه رجل يدعي أن له بستانا في يد الخليفة فأحضر الخليفة على مجلس القضاء وطلب من المدعي البينة فقال: غصبه المهدى مني ولا بينة لدى وليحلف الخليفة فقال أمير المؤمنين: البستان لي اشتراه لي المهدى ولم أجد به عقدا، فوجه القاضي أبو يوسف إلى الخليفة اليمين ثلاث مرات، فما لم يحلف قضى البستان للرجل. ومن ذلك أنه رد شهادة الوزير الفضل بن الربيع فسأله الرشيد أعظم ملوك الأرض في عصره في ذلك فقال: سمعته يقول: أنا عبد الخليفة فإن كان صادقا فلا شهادة لعبد، وإن كان كاذبا فشهادته أيضا مردودة لكذبه، وبالغ الخليفة في الجدل، فقال وما شأني كشاهد، أتقبل شهادتي؟ فقال أبو يوسف: لا فعجب الخليفة وسأله عن السبب فقال: لأنك تتكبر على الخلق، ولا تحضر الجماعة مع من حضرها من المسلمين،وهذا ينافي العدالة التي هي شرط لقبول الشهادة، فبنى الرشيد مسجدا في داره وأذن للعامة في الصلاة فيه فحضر بذلك صلاة الجماعة.