توازن إسلامي: حق عصمة الحياة الإنسانية

يرى الإسلام أن حماية حياة الإنسان تقع في مرتبة تأسيسها، قال الله تعالى :{من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} سورة المائدة الآية:32. وتفسير ابن كثير لهذه الآية :أي من قتل نفسا بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعا، لأنه لا فرق بين نفس ونفس، ومن أحياها ،أي حرم قتلها وأعتقد ذلك ، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار .يوضح الدكتور سعد الدين مسعد هلالي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر في كتابه «حقوق الإنسان في الإسلام» :حماية الحياة الإنسانية واحدة من حقوق الإنسان ،وهي في الوقت نفسه واجب على الإنسان الحاضر.هذا وتتحقق حماية الحياة الإنسانية بتحصينها بالعصمة أي حفظ الشارع للنفس حتى يحرم قتلها وتمنع من إهدار الدم.

وتعصيم النفس البشرية الذي يعني حرمتها وتأثيم الاعتداء عليها بغير حق – كاف لمنع ذوي النفوس القوية في إيمانها أن تقترف هذا الاعتداء، لأن قوة الإيمان تفضي إلى محاسبة النفس ولومها، وقد ذكر الله تعالى تلك النفس ورفع شأنها عندما أقسم بها في قوله سبحانه:{ولا أقسم بالنفس اللوامة} سورة القيامة الآية:2.أي التي تلوم صاحبها على التقصير في فعل الخير، كما تلومه على التفكير أو الهم بالشر.

والأصل أن الإنسان معصوم الدم، وأن عصمته هذه حق مكفول من الله تعالى بأصل الخلقة، ذلك أن الله تعالى لم يخلق الإنسان، ليقتل، وإنما خلقه،ليعيش ويكرم مصداقا لقوله سبحانه:{ولقد كرمنا بني آدم} سورة الإسراء الآية:70.فلم تمنح الشريعة الإسلامية العصمة للإنسان وإنما جاءت تؤكدها وتوثقها، وتشنع على من تسول له نفسه إهدارها إلا بحق ظاهر، باعتبارها حقا إنسانيا طبيعيا لا فرق فيه بين مسلم وغيره، قال تعالى:{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} سورة الأنعام الآية:151. وقال سبحانه : {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه،سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} سورة الإسراء الآية:33.وأخرج مسلم في «صحيحه» من حديث ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ،لأنه كان أول من سن القتل».

وأخرج ابن ماجه عن أبى هريرة رضي الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله لم يرح رائحة الجنة، وريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما». كل هذا يؤكد حق الإنسان في الحياة معصوم الدم بحكم أصل الخلقة ، لا فرق بين مسلم وغير مسلم، بل إن غير المسلم أحوج إلى طول العمر لعله يهتدي إلى الإيمان .

ولا خلاف بين الفقهاء في أن المراد بالحق المسوغ لقتل النفس هو: الإتيان بجرم يستوجب القتل، واتفقوا على تعيين جرمين، وذلك وفقا لضوابط خاصة تضيق من نطاق تطبيقهما، واختلفوا في بعض غيرهما. أما الجرمان اللذان اتفق الفقهاء على دخول أصحابهما نطاق الحق المسوغ لإهدار الدم فهما: التأهل للقتال في الحرب المشروعة، وقتل نفس مناظرة معصومة عدوانا.

أولا التأهل للقتال في الحرب المشروعة، وهذا يتفق مع مبدأ العدالة وفقا لقانون الحرب الذي يمنح هذا الحق للطرفين، لقوله تعالى :{وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين،فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم} سورة البقرة الآيات:190-192.

ويرى ابن تيمية ما نسبه للجمهور أن هذه الآيات تمنع قتال من لم يتأهل للقتال مستدلا بما أخرجه ابن حبان، من حديث حنظلة الكاتب ، قال : كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم في غزاة، فمر بامرأة مقتولة والناس عليها ، فقال: «ما كانت لتقاتل ، أدرك خالدا فقل له: لا تقتل ذرية ولا عسيفا» .وفي رواية عند أبي داود من حديث رباح بن ربيع بلفظ: «لا يقتلن امرأة ولا عسيفا». وقال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان والحسن البصرى، وكثير غيرهم، في تفسير قوله تعالى :{ولا تعتدوا} أى قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا فى ذلك من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأى لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة.

كما يرى ابن قدامة: أن من هؤلاء الذين لا يجوز قتلهم لعدم تأهلهم للقتال الفلاحين الذين يزرعون الأرض ، ونسب القول بذلك للأوزاعي، استدلالا بقول ابن عمر رضي الله عنهما: «اتقوا الله فى الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب». قلت: وهذا يؤكد ما ذكره ابن تيمية من منع قتال غير المتأهلين للقتال، ويشمل ذلك سائر المدنيين.

أما الجرم الثاني الذى اتفق الفقهاء على دخول أصحابه نطاق الحق المسوغ لإهدار الدم وهو قتل نفس مناظرة معصومة عدوانا، أى ظلما، وهذا يتفق مع مبدأ العدالة وفقا للقانون الطبيعي فى الحياة الذي يسوي بين المتناظرين، ويحمل المعتدي نتيجة عدوانه، ولقوله تعالى:{ولكم فى القصاص حياة، يا أولى الألباب لعلكم تتقون} سورة البقرة الآية:179.لأن القاتل إذا علم أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس. هذا، وضبطا لعدم التوسع فى إهدار النفس باسم هذين الجرمين، فقد قصرت الشريعة الإسلامية الحق في قتل المتأهلين لقتال المسلمين في الحرب المشروعة على حال الحرب ومن أهل الجهاد، فإن وقع القتل فى غير حال الحرب، أو من غير أهل الجهاد – كالمدنيين المقيمين في دار الحرب- كان غدرا محرما ، لقوله تعالى :{ إلا الذين عاهدتهم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين} سورة التوبة الآية:4. وللحديث الذي أخرجه مسلم عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا». ولأن مثل هذا الغدر يضر بسائر المدنيين المسلمين المقيمين في دار الحرب. كما قصرت الشريعة الإسلامية الحق في تنفيذ القصاص من القاتل على الحاكم أو من ينيبه بحكم الولاية ،لأن ذلك مفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن من تفويض العامة فيه من الإفراط، وهذا ما يفضى إلى الفتن والتهارج، والعياذ بالله تعالى .

وأما الجرائم التي اختلف الفقهاء فى دخولها نطاق الحق الوارد في الآية الكريمة: {ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق} سورة الإسراء الآية33والأنعام 151- فأشهرها: حد زنى المحصن وقتل المرتد، الثابتان فيما أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة « صحيح بخارى .

وتوسع بعض الفقهاء في تفسير هذا الحق المستثنى من عموم تحريم قتل النفس، فيقول القرطبي: وهذا الحق أمور، منها: منع الزكاة، وترك الصلاة، قال تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} سورة التوبة الآية5.وهذا بين .وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدرى مرفوعا: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» وأخرج أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي ، عن ابن عباس، مرفوعا: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . وغير ذلك يدخل فى قوله: {إلا بالحق}.

ولا حرج في ترتيب الإسلام عقوبة القتل لبعض الجرائم التي يراها مخلة لأمنه وكلياته، إذ يعتبر ذلك شأنا داخليا ارتضاه كل من تدين به أو التزمه، وفوق ذلك فالأمر على اختيار الجماعة للوجه الفقهي الذي ترتضيه من الخلاف الوارد في تلك الجرائم.