متفرقات: الصوم .. أثره وغايته

عبدالله محمد عبدالله -

لقد شاءت إرادة الله جل جلاله أن يكون الصوم فريضة قديمة تعبّد الله بها الإنسانية منذ فجر التاريخ، ولم تأت في القرآن الكريم عبادة مثل الصيام نصّ الله في فرضيتها على أنها كتبت علينا كما كتبت على الذين من قبلنا، وما فريضة الصيام في الأديان بعامة إلا إشعار بوحدة الدين، فدين الله واحد في اصله ومقصده (أن الدين عند الله الإسلام) (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه). وما فرضية الصيام في الإسلام بخاصة إلا لأنه عبادة السر بين الخلق والخالق، يبرز فيها جهاد النفس والانتصار عليها.

إذن فالصوم فريضة خالدة في كل دين، تقبل عليه النفوس راسخة الإيمان، قوية اليقين، لا ترى فيه عبئا ثقيلا تنوء به، ولكن تراه نعمة وخيرا على المؤمنين من حيث يصل القلوب بالله، ويحملها على استشعار خشيته ومراقبته وتقواه، وصدق الله العظيم إذ يقول: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).

عزيزي الصائم: إن الحياة لا بد فيها من عزيمة صادقة تصدع غوائل النفس، وترد هواجس الشر، وتبطش بالهوى الكذوب، وتنطلق بالإنسان الى الجهاد الحر الكريم في شتى الميادين.. والصوم في هذا المجال خير معوان على صقل النفوس وتربيتها، والسمو بها الى آفاق عليا من الكهر والصفاء، فلا تتحكم فيها نزعات الإثم ووساوس الشر وشهوات الجسد، وإنما تكون دائما نقية تقية، تخشى الله وترجو رحمته، وتهاب حسابه وتتوقى عقابه.

إن غاية الصيام وثمرته تربية التقوى في نفس المؤمن، وتعميق الإيمان في كيانه، والصيام يعدّ النفوس ويهيئها لكل هذا، فإن الامتناع عن اهم رغبات الجسد وحاجاته الضرورية امتثال لأمر الله وقرب إليه، يقود الى التقوى ويدعو إليها من ناحية، ويضعف تحكم القوى الشهوية في الإنسان فلا تسيطر عليه من ناحية أخرى، وتلك حقيقة يضع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدنا عليها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «الصيام جنّة من النار كجنة أحدكم من القتال» رواه أحمد. وفي قوله أيضا: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» الشيخان.

إن الصوم سر بين العبد وربه، وأمانة بين المخلوق وخالقه، لا يدخلها رياء، ولا يحتويها نفاق، بها يتأصل الإيمان في الوجدان، انه عبادة لا يطلع عليها إلا علام الغيوب، ولا يكون الجزاء عليها إلا من الله سبحانه، والذي اختص هذه العبادة لنفسه وأضافها الى ذاته، وذلك فيما يرويه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: «كل عمل ابن ادم له إلا الصوم فإنه لي وأنا اجزي به».إن الصيام يقوي الإرادة الإنسانية، ويجعل من المسلم رجلا ماضي النفس، صلب العزيمة، منتصرا على غرائزه، مالكا لزمام نفسه، مستعليا على شهوته، مستويا على طريق الله. ومن ثم فقد اصبح واجبا في كل عام شهرا كاملا، يتكرر بتكرر الأعوام، ليكسب النفس المؤمنة قوة المقاومة، وصلابة العزم، وتجدد الطاقة. انه أشبه ما يكون بمصل سنوي يقاوم في النفس رغباتها ودناياها، ويجدد قدرتها على هذه المقاومة. أو هو أشبه ما يكون بضرب من التدريب العملي والنفسي، وذلك لإعداد لبنات الأمة للحياة العزيزة الكريمة في دنيا تلعب فيها السفاسف بالنفوس، وتذهب فيها الدنيا بالرؤوس، دنيا لا يثبت على ارضها إلا الحق الأصيل المبني على صلب الإرادة، وقوة العزيمة: قال تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). والمسلمون من فقهوا معنى الصيام، وأدوا هذه الفريضة بنية صادقة، كانوا أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، إن الجهاد فريضة في الإسلام، والقيام بهذه الفريضة على وجهها يحتاج الى رجال ذوي صدق في العقيدة، وعزم في الإرادة، وما الصيام إلا طاقة هائلة تسهم بخط كبير في إعداد الرجال للمجابهة والجهاد، فيه تختبر الطاعة، ويمتحن الإيمان، ويستعلي اليقين، ومن ثم فليس غريبا أن تقع اشهر معارك النصر الحربية الفاصلة التي خاضها المسلمون بإيمان وبسالة في شهر رمضان، فبالصيام انتصر الأفراد على النفس، فانتصرت الأمة على العدو. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم). فنصر الأمة على العدو نتيجة حتمية لانتصار الإنسان على النفس، ولاستعلائه على نوازعها.