خواطر دعوية: المنهج الخفي

مليكة السيابية -

كثيرًا ما يُقاس الإسلام بالرجال، فإن أخطئوا نسبوا أخطاءهم للالتزام والتدين، والإسلام لا يقاسُ بالرجال.. الرجالُ يقاسون بالإسلام..

لكنَّ الناس فُطروا على حُب الاقتداء بالآخرين، ولذا كانت الرسائل السماوية مجسدة في الرسل الكرام عليهم أفضل السلام، الذين كانوا يعيشون بينهم ويمشون في الأسواق..

فالناس تتعلم بعينها أكثر مما تتعلم بأذنها، فآلاف الخطب والمواعظ تغني عنها أخلاق داعية فاضل، يحتكُّ بأفراد مجتمعه..

وأذكر أنَ أحدهم ذكر أنَّ أباه اصطحبه يوما في صغره، ولما صارت الإشارة خضراء وهمَّت السيارات بالانطلاق، أسرع الوالد بالترجل من السيارة ليقود رجلاً كبيرًا في السن إلى الرصيف الآخر.. فيقول: لقد كان موقف أبي ذاك أبلغ من كتاب من 300 صفحة في الأخلاق..

نعم المواقف الحيَّة تحفرُ في العقول ما لا تقوى عليه آلاف الكلمات، وأذكُر أن إحدى الداعيات دُعيت إلى بيت اجتمعت فيه النساء يستمعن منها، وهذا يعكسُ حب المجتمع للسماع من الدعاة..

ولكن لمّا انتهى الاجتماع.. وأرادت إخراج سيارتها بين زحمة المواقف غضبت غضبًا شديدًا لوجود سيارة أعاقت تقدمها، وبدأت بالصراخ في وجه النساء كونها مستعجلة، تقول لي إحداهن: لقد نسفت في لحظة كل ما قالته في درس ساعة!.

الابتداء بالإصلاح: فالداعية يبدأ برياضة نفسه أولاً، وهذا دليل صدقه وإخلاصه، وهو سبيلُ توفيقه وفلاحه..

أمَّا أن يلقي الداعية الخطب والمواعظ وهو يظنُّ استغناءه عنها، وأنها تخصُّ المدعوين وحدهم، فهذا انحدارٌ ومزلقٌ خطير وقع فيه البعض، ممن يعملون كأسطوانة صوتية تفرغُ ما حفظته.. وللأسف هؤلاء يسيئون للدين وهم يظنون أنهم يحسنون.. “كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”

“إن آفة رجال الدين حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة.. أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، ويحرفون الكلام عن مواضعه، ويؤلفون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات، قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود..”وقد شبه الله تعالى أحبار اليهود بالدواب، لمَّا نقلوا كتب العلم وما أحسنوا الإفادة منها.. “مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين”. وللأسف بات الناسُ يقارنون من يحمل صفات التدين وهو منه بعيد.. بحال أهل الغرب الذين لا دين لهم.. من ذلك ما مرَّ بي أنّ أحدهم يصف فلانًا الأوربي أنه تخرج المهام من بين يديه متقنة الأداء، وأمّا فلان الذي يكثر الصلاة فقلما يريحني في إحسان واجب.. فالمتدين الكسول دعاية سيئة للتدين.. سر التأثير: إن قوة تأثير الرسول عليه الصلاة والسلام في أمته تكمن في سحر شخصيته، وتفانيه في خدمة الدين، وتضحياته الكريمة، وحلمه العظيم، كل ذلك اختصاره..”لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة”..

ولذلك أحبه الصحابة حبًا فاق آفاق الخيال.. حتى قال أبو سفيان: “ما رأيت أحدًا يحبُّ أحدًا كحبِّ أصحاب محمدٍ محمدًا”..

ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص يدعو الجلندى إلى الإسلام، قال الجلندى: لقد دَلَّنِي على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يهجر، وأنه يفي بالعهد وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي..

الوعظ زكاة الاتعاظ: إذا اتعظ الداعية أولاً استطاع وعظ غيره لاحقًا، يقول الإمام الغزالي: الوعظ زكاة الاتعاظ، ومن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة.. وقد وُصف أحد الدعاة أنه ما بلغ الذي بلغه من حب وتأثير في الناس إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم عنه”.. وقال إبراهيم بن أدهم يومًا لأصحابه: ادعوا الناس وأنتم صامتون، قالوا: كيف ذلك قال: ادعوا الناس بأفعالكم.

والداعية في طلبه للعلم، وتزكيته لنفسه.. يُرى ذلك في قوله وصمته، وفعله وحركته، وهديه وتخشعه، ولسانه وسمعه وبصره ..

المنهج المستتر: تعرف العلوم التربوية جيِّدًا الأثر الخطير للمنهج المستتر، وهو يقابل المناهج المكتوبة التي تعطى للطلاب في كتبهم، إنه أخلاق المعلم في تعامله مع الطلبة، وتعامله مع الإدارة والمعلمين، فالمنهجُ سُميَّ مستترًا لأنه غير ظاهر في كتاب بل يستتر في حركات المعلمين وسكناتهم..وهو رغم تستره أعظم وأعمق تأثيرًا من المنهج الواضح الصريح!

ولأن كل داعية معلم، فهو يقع على ثُغرَةٍ من ثغر الإسلام، ولذا وجبَ عليه الحذر من أن يؤتى الإسلام من قبله، فالناس تقيس الإسلام بالرجال.. “ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”. ومضة: الدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم، ولكن في الدعوات ذاتها.. سيد قطب