توازن إسلامي: الحرية السياسية

الحرية السياسية مكفولة في المجتمع الإسلامي، فقد أباح الإسلام للأفراد وللجماعات أن يبدوا آراءهم في الحكم ما داموا لا يخرجون عن طاعة الله، ولا يسعون في الأرض فسادا.

يقول الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في كتابه “حرية الفكر في الإسلام”: الحرية السياسية في مفهومها، هي احترام رأي الفرد في الحكم، بحيث لا تضيع شخصيته في شخصية الحاكم، بل يكون لرأيه سلطان فيما يراه ولو في شخص الحاكم متى يسير الحاكم عن الطغيان والظلم .

والإسلام صان الحرية السياسية بأمور ثلاثة هى : أولا، جعل أمر المسلمين شورى بينهم، وهذا يجعلهم شركاء في الحكم، يتحملون اختيارهم للحاكم. ثانيا، ليس في الإسلام ذاته مصونة، بل الجميع أمام الشرع سواء، وكل يخطئ ويصيب وما اضطهاد الحاكم بآرائه إلا لاعتقاده أنه منزه في نفسه عن الخطأ، وتزيين المنافقين له. ثالثا، وما أوجبه الإسلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا الواجب سهل على الناس في إبداء آرائهم في أعمال الحكام من غير فتنة ولا تحريض على الفساد، ولقد كان بعض الناس يتطاولون على مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ويعترضون على ما يقوم به من أعمال ومع ما أنطوت نفوسهم عليه من مرض النفاق. كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلومهم، حتى لا يتخذ بعض الأمراء من بعده مسوغا لمنع الناس من إبداء آرائهم، فكان صلى الله عليه وسلم يتحملهم مع مرارة ذلك، ويأخذهم بالرفق، ولقد سجل القرآن ذلك فأشار إلى ما كان يقوله المنافقون. قال تعالى:{ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون}.

قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية : وصف الله تعالى قوما من المنافقين بأنهم عابوا النبى صلى الله عليه وسلم في تفريق الصدقات وزعموا أنهم فقراء ليعطيهم.

ومن جهة أخرى يقول الدكتور محمد نجيب أحمد أبو عجوة في كتابه “المجتمع الإسلامي دعائمه وآدابه في ضوء القرآن الكريم”: من الحرية السياسية ظهرت المعارضة في ظل الدولة الإسلامية، المعارضة المشروعة التي لا تخرج في وسائلها وأهدافها عن منطق الدين والعقل والمصلحة، بعيدة عن هوى النفس. كما حدث ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر من هذا النوع، لا المعارضة غير المشروعة التي هي لذات المعارضة فقط، وهي التي يصاحبها تحقيق المصلحة الذاتية ولو على حساب الإضرار بالدين وإفساد العقيدة، ومنها معارضة المرتدين في عهد الصديق رضى الله عنه، حينما أمر على عدم التفريق بين الصلاة والزكاة، ومنها المعارضة التي قامت في وجه عثمان رضي الله عنه وانتهت باستشهاده. والأمثلة التطبيقية للحرية السياسية كثيرة في المجتمع الإسلامي فكانت مع الرسول صلى الله عليه وصحبه، ومع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ورعيتهم، لنضرب مثالا واضحا على ذلك في عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه عندما كان صاعدا على المنبر وطلب بألا تزاد المهور، وحددها بأربعين أوقية، فاعترضته إمرأة، فقال عمر رضي الله عنه: امرأة أصابت وأخطأ عمر.

ويقول الأستاذ محمد الغزالي في كتابه “حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة”: وظائف الدولة في نظر الإسلام أعمال لها مواصفات معينة من استجمعها رشحته مواهبه لها دون نظر إلى شئ آخر. وللحاكم أعمال عادية يسوس بها الأمور، وتعد من شؤون الدنيا التي لا نص للشارع فيها. وهذا الضرب من الأعمال لا يجوز أن يستبد الحاكم به، بل ينبغي أن يستشير أهل الذكر ويستطلع آراءهم، فهو فيه عرضة للخطأ والصواب، ولا يقبل منه أن ينطلق وفق ما يبدو له. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أنه وراء دائرة الوحي بشر يستمع لآراء الآخرين، ويستنير بها، وهو معرض للنسيان أو للخطأ ي شؤون الدنيا . عن موسى بن طلحة عن أبيه، قال : مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل فقال: “ما يصنع هؤلاء ؟” فقالوا:يلقحونه – يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أظن يغنى ذلك شيئا” قال :فأخبروا بذلك ، فتركوه ،فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: “أن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فانى انما ظننت ظنا، فلا تؤاخذونى بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله عز وجل”رواه مسلم.وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستشير أصحابه، وكان ينزل على مشورتهم.فإذا اختفت الآراء نزل على رأى الكثرة، وسيرته في ذلك واضحة في غزوة بدر وأحد والأحزاب .

فإذا الحاكم جار وانحرف، وجب على الأمة أن تنقذ أخطاءه وتقوم انحرافه وتكشف جوره، فان طبيعة الأمة الإسلامية أن تتأبى على المنكر ، وألا تترك له قرارا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه،فان لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.

والحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الخصائص الأولى للأمة الإسلامية، والشعار الواضح من بين شعائر الإسلام. فبه صارت خير أمة أخرجت للناس، وعلى أساسه وعدت بالتمكين في الأرض. والصدارة على الصعيد العالمي.

قال تعالى :{ ولينصرن الله من ينصره،أن الله لقوى عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور} سورة الحج الآيتان40-41.

والتعقيب على أخطاء الحاكم بالنقد ليس أمرا مباحا فحسب – كما يظن من مفهوم كلمة الحرية السياسية- بل هو في تعاليم الإسلام حق الله على كل قادر، والسكوت عن هذا النقد تفريط في جنب الله.

وخلع الحاكم إذا خان الله ورسوله وجماعة المسلمين واجب. فعن جنادة بن أبي أمية قال: “دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض. قلنا: أصلحك الله، حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال: “دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا. وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان”.

ويقول ابن حزم: “والواجب، إن وقع شيء من الجور- وإن قل – أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه، فان امتنع، وراجع الحق، وأذعن للقود، من البشرة أو من الأعضاء، ولإقامة حد الزنا . والقذف. والخمر عليه. فلا سبيل إلى خلعه وهو امام كما كان لا يحل خلعه. فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يرجع. وجب خلعه، وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.