السنة والتشريع: تقسيم الحديث وتمييزه

لم تتوقف جهود العلماء والمخلصين في مقاومة الوضع في الحديث عند هذا الحد، بل راحوا يقسمون الحديث ويميزونه إلى حديث صحيح، وحسن، وضعيف. أما الصحيح فهو ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله حتى ينتهي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو إلى منتهاه من صحابي، ولا يكون شاذا أو لا مردودا ولا معللا بعلة قادحة. واحترزوا باتصال السند عن انقطاع سلسلته فإن سقط منه الصحابي كان مرسلا، وهو عند جمهور المحدثين غير محتج به، ونازل عن مرتبة الصحيح وفيه خلاف بين الفقهاء. ويقول الدكتور مصطفى السباعي في كتابه “مكانة السنة في التشريع الإسلامي”: أما الحديث الحسن، فقد اختلف العلماء في حد الحسن، لأنه كما قال الشيخ ابن الصلاح: لما كان وسطا بين الصحيح والضعيف في نظر الناظر لا في نفس الأمر، عسر التعبير عنه وضبطه على كثير من أهل هذه الصناعة، وذلك لأنه أمر نسبي، شيء ينقدح عند الحافظ ربما تقصر عن عبارته، ثم اختار التعبير عنه بقوله: الحديث الحسن قسمان: (أحدهما) الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته غير أنه ليس مغفلا كثير الخطأ، ولا هو متهم بالكذب، ويكون متن الحديث قد روي مثله أو نحوه من وجه آخر. (الثاني) أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة ولم يبلغ درجة رجال الصحيح في الحفظ والإتقان ولا يعد ما ينفرد به منكرا ولا يكون المتن شاذا ولا معللا. هذا ولم يكن قدماء المحدثين في القرن الأول والثاني قد اصطلحوا على تسمية قسم من الأحاديث بهذا الاسم (الحسن) وإنما حدث بعد ذلك في عصر أحمد والبخاري، ثم اشتهر بعد ذلك.

أما الضعيف: وهو القسم الثالث من أنواع الحديث عندهم، وهو ما لم تجتمع فيه صفات الصحيح ولا صفات الحسن، وقد سموه باعتبار منشأ الضعف فيه إما في سنده، أو في متنه.

فمن أنواعه: (المرسل) وهو ما رفعه التابعي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير ذكر الصحابي. وفي حجيته خلاف بين الفقهاء، أما المحدثون فقد اتفقت آراؤهم على ألا يعمل به، قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: (إن المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة) وقال الشيخ الحافظ أبو عمرو بن الصلاح: (وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه، هو الذي استقر عليه آراء جماعة حفاظ الحديث ونقاد الأثر وتداولوه في تصانيفهم) ولا شك أن هذا مبلغ الاحتياط في دين الله وحفظ سنة رسوله، فإنهم مع اتفاقهم على عدالة الصحابة اتفقوا على ضعف المرسل، مع أنه لم يسقط منه إلا الصحابي، واحتمال أن يكون الصحابي قد رواه عن تابعي احتمال ضعيف جدا لم يقع، ولو وقع لبينه الصحابي فإذا كان التابعي الثقة أسقط الصحابي وهم كلهم عدول، فما الذي يضير الحديث؟ ولكنه الضبط والاحتياط اللذان عرف بهما علماء هذه الأمة. ومن أنواع الضعيف: (المنقطع) وهو أن يسقط من الإسناد رجل (غير الصحابي) أو يذكر فيه رجل مبهم ومنه: (المعضل) وهو ما سقط من سنده اثنان فصاعدا، ومنه ما يرسله تابع التابعي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومنه: (الشاذ) وقد عرفه الشافعي بأن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس فهذا يتوقف فيه، وعرفه حفاظ الحديث: بأنه ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ به ثقة أو غير ثقة، فيتوقف فيما شذ به الثقة ولا يحتج به، ويرد ما شذ به غير الثقة، ولكن تعريف الشافعي أولى، لأنه يلزم على التعريف الثاني التوقف في أحاديث كثيرة لا يرويها إلا راو واحد من الثقات، كيف وقد قال مسلم: للزهري تسعون حرفا لا يرويها غيره؟

ومنه: (المنكر) وهو ما شذ به الراوي الذي ليس بعدل ولا ضابط فإنه يرد ولا يقبل.

ومنه: (المضطرب)، وهو أن تختلف روايات الحديث في متنه أو سنده، ولا يمكن ترجيح إحداها على الباقية، لاستوائها جميعا في الصحة ورواية الثقات، وهو ضعيف إلا أنه إذا كان الاختلاف في اسم راو أو اسم أبيه أو نسبته مثلا ويكون الراوي ثقة، فعندئذ يحكم للحديث بالصحة.

ويذكر السيوطي في كتابه “مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة”، أنه كما وضع العلماء القواعد لمعرفة الصحيح والحسن والضعيف من أقسام الحديث، وضعوا قواعد لمعرفة الموضوع وذكروا له علامات يعرف بها، علامات في السند وعلامات في المتن. ومنها أن يكون راويه كذابا معروفا بالكذب، ولا يرويه ثقة غيره، وقد عنوا بمعرفة الكذابين وتواريخهم وتتبعوا ما كذبوا فيه بحيث لم يفلت منهم أحد. وأن يعترف واضعه بالوضع، كما اعترف أبو عصمة نوح بن أبي مريم بوضعه أحاديث فضائل السور، وكما اعترف عبد الكريم بن أبي العوجاء بوضع أربعة آلاف حديث، يحرم فيها الحلال، ويحلل فيها الحرام. وأن يروي الراوي عن شيخ لم يثبت لقياه له أو ولد بعد وفاته، أو لم يدخل المكان الذي ادعى سماعه فيه، كما ادعى مأمون بن أحمد الهروي أنه سمع من هشام ابن عمار، فسأله الحافظ ابن حبان: متى دخلت الشام؟ قال: سنة خمسين ومائتين، قال ابن حبان: فإن هشاما الذي تروي عنه مات سنة خمس وأربعين ومائتين.

أما علامات الوضع في المتن فتتمثل في واكلة اللفظ وفساد المعنى ومخالفته لصريح القرآن ومخالفته لحقائق التاريخ المعروفة في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وان يتضمن الحديث أمرا من شأنه أن تتوافر الدواعي على نقله، واشتمال الحديث على إفراط في الثواب العظيم.