د. ناصر الندابي -
الزهداء هم من عرفوا حقيقة الدنيا، فأبدعوا في سياستها، وأحسنوا استغلالها، سبروا كنهها فتبين لهم أوارها ففهموا كيف يتزودا منها للدار الأخرة، أيقنوا أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فأوضعها مواضعها وأبعدوها عن قلوبهم، فانقادت إليهم صاغرة، خاضعة مستسلمة، هؤلاء هم الحكماء، حكماء في سياسة أنفسهم، وحكماء في سياسة الدنيا، هكذا كان علماء عمان وأئمتها، فحالهم كحال قول الشاعر واصفا عمر بن الخطاب:
جوع الخليفة والدنيا بقبضته
في الزهد منزلة سبحان موليها
ومن هؤلاء الزهداء الحكماء الإمام سالم بن راشد الخروصي ومما يروى عنه أنه جاء إلى السوق فمر على مسجد يصلي فيه بعض الأثرياء فصلى معهم الظهر وجاء ليخرج فقال له ذلك الثري: لا تذهب حتى تتقهوى والسوق لم يفتح من الآن فتأخر واستأذن بعد القهوة فلحقه ولد الثري في الطريق فقال له: إن أبي أرسل إليك هذه الدراهم وكانت ( 13 ) قرشا لتستعين بها على مهمتك، قال: لا إن مهمتي تحتاج إلى قرشين وهاهما عندي فرد الدراهم إلى أبيك واشكره عني، قال: هذه صدقة ولا ينبغي أن تردها، قال: لمن هو أحوج مني، ولا أبيت وعندي ما لا احتاج إليه، قال له لحاجة الغد، قال: ومن يضمن حياتي إلى الغد، وإن حييت فسوف يكون رزقي ممدودا.
ويروى أيضا عن هذا الجهبذ -الإمام سالم بن راشد الخروصي- أن النفقة المقدرة له من بيت المال كان الخادم يأخذها من الشيخ إبراهيم بن محمد السيفي يوميا، فكان من قدر الله أن أصابه إسهال ولم يشكه لأحد وانقطع بسببه عن الخروج إلى الناس فذكرت زوجته ذلك للنساء فوصفن لها هريسة الدجاج فجعلت تقصر من النفقة لشراء ذلك فعملتها له، فلما قربتها قال: من أين لكم هذا؟ فأخبرته فأمر الخازن الشيخ إبراهيم السيفي أن يقصر من النفقة.
ولذلك قال فيها أخوها الشيخ العلامة ناصر بن راشد الخروصي واصفا زهده وورعه:
محتمل الأذى صبور ووقور
قد رفض الدنيا لمولاه شكور
وقيل فيه أيضا:
إن قال كلمة رآها تقرب
في لا مفيد تلقه يلتهب
مستغفرا كأنه قد ارتكب
كبير ذنب خشية من الغضب
ومما يروى أيضا عن الإمام الزاهد محمد بن عبدالله الخليلي أنه اشتهى يوما بعض الأكل في بيته فلما حضر عف عنه وقال : لا أحب أن أعطي نفسي ما تشتهي. فلله درها من رجال تعرف كيف تتعامل مع نفسها.