مصباح قطب -
كما يحتار الاطباء في تشخيص حالة مريض معقدة يحتار الاقتصاديون ايضا في تشخيص الأوضاع الاقتصادية الصعبة لبلد من البلاد وسبل معالجتها وكما يقولون فإنه توجد عادة تشخيصات وعلاجات بعدد الاقتصاديين انفسهم والمعني انه يصعب أن يتفق الاقتصاديون على علاج اقتصاد بلد أو منطقة والأدهى من ذلك أن التاريخ الاقتصادي الحديث نفسه يشير إلى انه قد يتفق الاقتصاديون علي العلاج لكن المريض (يموت) أي أن المشكلة الاقتصادية تتفاقم، والمراد من ذلك أن هناك جانبا آخر سلبيا في الاتفاق كما يوجد أيضا جانب سلبي في الاختلافات المتعددة بين الاقتصاديين. ومن بين أصعب النقاط في المشكلة الاقتصادية وأكثرها عرضة للاختلافات حول معالجتها مشكلة كيفية تحريك اقتصاد يمر بركود طويل. لم تعد الحياة بسيطة كما كان عليه الحال في عهد اللورد كينز وزمن الكساد العظيم في أمريكا قبل الحرب العالمية الثانية فإذا كانت وصفة كينز بزيادة الإنفاق العام عبر إقامة مشروعات بنية أساسية حتى ولو لم يكن لها لزوم قد نجحت في تحريك الوضع الاقتصادي آنذاك فما اكثر المرات التي تم فيها تجريب حل كينزي في حل مشاكل اقتصاد هذا البلد أو ذاك ولم تنجح كلها، وما اكثر أيضا ما ندمت دول على أنها لم تتبع الحل الكينزي، وداخل حل كينز نفسه هناك مدارس متعددة تدور الاختلافات فيما بينها فيما يتعلق بحجم الحزم التحفيزية المطلوبة ونوعيتها وأولوياتها وسبل تمويلها والوقت الذي يجب أن يتوقف فيه ضخها وهكذا، أي انه اصبح لدينا دسته لورد كينز داخل المدرسة الكينزية نفسها وقس على هذا في كل المدارس الاقتصادية الأخرى وما زاد الأمر تعقيدا أن الركود الاقتصادي اصبح هو ذاته ركودات وليس ركودا واحدا بمعنى انه يعيد إنتاج نفسه أي الركود داخل كل قطاع من قطاعات الاقتصاد بطريقة مختلفة، والمدهش انه داخل القطاعات نفسها كثيرا ما تتفاوت حدة مستوى الركود ويحدث كثيرا أيضا أن تنتعش جوانب من النشاط الاقتصادي أو في بعض القطاعات في الوقت الذي يكون فيه الاقتصاد بشكل عام في حالة ركود عميقة. معقدة هي المسألة إذن، ومن المشاهدات الاجتماعية في الحياة المصرية علي سبيل المثال الآن أن يذهب المرء لهذا المصيف أو ذاك فيجده غاصا بالرود وكثيرا وقتها ما يسمع المرء حوله من يقولون: أين التباطؤ الاقتصادي إذن؟ أو يذهب المرء لهذا المول الضخم أو ذاك فيجده مزدحما ويسمع حوله أيضا من يقول: كل هذا الزحام وتتحدثون عن التباطؤ الاقتصادي؟ أو يرتاد معرضا ليبيع أجهزة الهواتف المحمولة ومستلزماتها أو أجهزة الحاسوب الحديثة فيجده لا موضع فيه لقدم ويسمع أيضا من يقول: من الذي قال إن هناك ركودا اقتصاديا؟ تلك الأمثلة تدلنا على أن المشهد معقد فعلا فمن المقطوع به أن مصر تمر بمرحلة تباطؤ اقتصادي ممتدة ودليل ذلك هو أن معدل النمو يدور حول رقم 2% خلال الفترة من يناير 2011 حتى الآن كما أن معدلات البطالة تتزايد مع معدلات الجريمة بالطبع وغير ذلك ويزيد من تعقيد الركود المصري كونه مصحوبا بذلك النوع من التضخم الذي يسمى بالتضخم الركودي وعلى ذلك فإن (الشاطر) من يجد مخرجا للاقتصاد من هذا الركود بأسرع وقت وبأقل التكاليف.
بالطبع توجد حلول موسمية من شأنها تخفيف حدة الركود لكن لا يمكن الاعتماد عليها كعلاج دائم له ومن أمثلتها توسع عمليات الإنفاق الاستهلاكي في الأعياد والمناسبات القومية والدينية والاجتماعية واستحداث برامج ترفيهية أو خدمية (كتنظيم رحلات سياحية مخفضة أو تقديم عروض بتخفيضات كبيرة على سلع استهلاكية معينة في تلك المناسبات) لحفز الاستهلاك الخاص وبما يؤدي في النهاية إلى قدر من الحركة في النشاط الاقتصادي غير أن ذلك كما قلنا لا يقدم حلا وأقصى ما يستطيعه هو إضافة أسئلة أخرى على ألسنة عدد اكبر من الناس من عينة أين هو الركود عند مشاهدة أي زحام في أي موضع من المواضع في مثل تلك المناسبات. وأيضا هناك حلول اشمل لكنها قصيرة المدي مثل الإعلان عن إقامة مشروع قومي للتشغيل في مشروعات لتحسين الطرق وتبطين الترع وزرع الأشجار وهكذا. هناك أيضا الاجتهادات في السياسات الاقتصادية وهي التي تحدث حولها وفيها الخلافات التي تحدثنا عنها في هذا المقال.
وقد شهدت مصر اربعة توجهات اقتصادية متباينة في الفترة من يناير 2011 حتى الآن يمكن إيجازها فيما يلي: اختار المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي والذي كان بمثابة رئيس مصر ،آنذاك وهو الذي تولى السلطة بعد رحيل مبارك اختار أن يرفض حلول صندوق النقد الدولي وقام في المقابل بعملية تعيين ضخمة شملت مئات الآلاف في الجهاز الحكومي المتخم أصلا على أمل أن يساعد ذلك في تنشيط الطلب الاستهلاكي عبر إنفاق الموظفين الجدد.
بعد ذلك جاء حكم الإخوان المسلمين فاختار اللانظام إذ قطع شوطا طويلا في التفاوض مع صندوق النقد الدولي ثم فجأة أوقف تنفيذ ما التزم به وسار فترة على طريقة مزيد من التعيينات في الحكومة لإرضاء الأطراف المختلفة ثم سرعان ما توقف .. اختار الاقتراب من بعض الدول العربية طمعا في المساعدات ثم أيضا قطع صلته بالجميع تقريبا ما عدا قطر، واختار رابعا الحديث عن مشروعات قومية كبرى لكنه عجز عن تنفيذ أي واحد منها فضلا عن إقناع المجتمع بامتلاكه رؤية اقتصادية واضحة. ثم جاءت فترة ما بعد إزاحة الإخوان بحكومة من الليبراليين الوطنيين يقودهم الاقتصادي العربي الشهير الدكتور حازم الببلاوي رئيسا للحكومة واختارت بعد وقت قصير من تشكيلها منهجها حيث أعلنت بوضوح غير متوقع أنها ترفض منهج صندوق النقد الدولي للإصلاح الاقتصادي لأنه يتعامل مع دائرة واحدة هي الضبط المالي أو خفض عجز الموازنة بينما يتطلب الإصلاح الضبط المالي والنمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية معا وأعلنت الحكومة أيضا أن الموارد الداخلية غير كافية لتحريك الاقتصاد وأنه لا بد من ضخ مالي من الخارج حتى يمكن عمل معدل نمو معقول يكون ركيزة للانطلاق في المستقبل ولأن المصادفات وفرت لتلك الحكومة مساعدات ضخمة من الدول العربية الشقيقة وأبرزها السعودية والإمارات والكويت وأضيف إليها قيام الحكومة بتحويل المقابل النقدي لوديعة بالبنك المركزي كان الرئيس المصري الأسبق مبارك قد أمر بعدم الإنفاق منها إلا بأمر منه شخصيا وتم استخدام المبالغ المتوفرة من هنا وهناك في عمل حزمتين للتحفيز الاقتصادي كان لهما اثر معقول في إحداث بعض الحراك في النشاط الاقتصادي لكن حال دون تحقق الأثر الكامل للحزمتين المشار إليهما عامل لم يكن من الحسبان وهو ضعف قدرة الجهاز الحكومي علي تنفيذ الاستثمارات العامة المرصودة كان من المأمول أن تزيد تلك القدرة لاحقا وأن تعزز فاعلية عملية التحفيز في إيجاد فرص العمل وتحريك النمو وهي عملية تمضي بالمناسبة على النهج الكينزي المشار إليه لكن الحكومة قدمت استقالتها قبل الانتخابات الرئاسية الماضية مما ترك الباب مفتوحا لاجتهادات أخرى ثم جاءت حكومة المهندس إبراهيم محلب بأفق سياسي واقتصادي جديد وبعد فترة أعيد تشكيل الحكومة في ضوء وجود رئيس جديد منتخب لمصر وأصبح واضحا أن هناك منهجا جديدا بشأن التعامل مع تحدي تحريك الدولاب الاقتصادي المتباطئ فكيف جاء التوجه الجديد وما الذي أدى إليه؟. كان أول ملامح للاختلاف هو إعلان الحكومة أنها لن تأخذ نهجا تقشفيا لكنها لن تسير على خطى التحفيز الاقتصادي بطريقة حكومة الببلاوي وزاد من وضوح السياسات إعلان الرئيس المصري أن مصر لا يمكن أن تراهن طوال الوقت على كرم الأشقاء وأن عليها أن تبني قدرتها الذاتية بنفسها وأن تعتمد على قدرتها الذاتية في تنشيط الاقتصاد أو ما سيق إلى قيام الحكومة إلى الشروع أولا في خفض عجز الموازنة الجديدة 2014-2015 بعد أن رفض الرئبي التصديق عليها بسبب العجز الكبير الذي تحتويه وكان هناك العديد من القرارات للإصلاح الاقتصادي منها رفع الدعم عن المحروقات وكذلك الإعلان عن مشروع محور قناة السويس والقيام بالعديد من المشروعات لاحتواء نسبة البطالة الكبيرة في مصر.
النهج الجديد يمر في طريق يجمع بين الحفز المعنوي للمصريين للإسهام في إخراج اقتصاد بلادهم من الركود ووضعه في مسار الانطلاق والجانب الأخر هو فك اختناقات الاقتصاد وحل المشاكل الإجرائية والتمويلية التي تواجهه وتهيئة المناخ للاستثمار الخارجي والداخلي ومواربة الباب في العلاقة مع صندوق الدولي فربما تحتاجه مصر، فهل ستفلح كل تلك الإجراءات؟ نأمل ذلك!