المحتوى المفتوح .. عالم من التغير

أحمد بن سالم الفلاحي –

Dreemlife11@yahoo.com –


يكثر اليوم ، اكثر من اي وقت مضى ، الحديث عن الاعلام وأثره الكبير في التغيير، واذا شكل الإعلام التقليدي، اكثر من اي وقت مضى ايضا، محور هذا الحديث، فان الاعلام المنافس اليوم يأخذ زمام المبادرة للاحتواء على هذا الحديث، لسهولته، وسهولة التعاطي معه، ولشموليته، وشمولية الذين يعملون من خلاله، حيث لم تعد المؤسسة التقليدية سواء كانت مؤسسة صحفية، أو مؤسسة إعلامية هي من يحتكر افضلية الاستحواذ على الممارسة المهنية، فقد اصبح كل من يملك جهاز حاسب آلي، وخط موصول بالشبكة العنكبوتية، او حتى جهاز هاتف نقال متطور له كامل المساحة ليمارس عملا صحفيا، او إعلامية بغض النظر عن مهنية هذا العمل من عدمها، هذه هي الصورة حتى هذه اللحظة، والقادم ربما اكثر تعقيدا، واكثر يسرا ايضا، واكثر خطورة في المقام الأول.

ولذلك لا يستغرب ابدا أن تآكلت الحدود التقليدية بين الصانع للحدث، وبين المستهلك لهذا الحدث وهو المتلقي للرسالة الاعلامية، وهي الحدود المرشحة للاختفاء تماما، وعلى سبيل المثال، عليك ان تفتح احدى الوسيلتين: التويتر، او الفيسبوك، عند سماعك عن اي حدث سوف يقام، في اي بقعة من العالم، فمع اول كلمة تنطق في هذا الحدث سوف تتلقاها في اللحظة نفسه، وعليك، ان كان عندك مزيدا من الوقت ان تعيش الحدث نفسه، وبكل تفاصيله المملة، وانت في غرفتك، او مكتبك، او مكان استرخائك.

يطرح في هذه الصورة الماثلة اليوم لهذا الواقع اكثر من إشكالية، بعضها مهنية، وبعضها مالية، وبعضها متعلقة بالقيم المهنية، وحتى لا يحدث خلطا بين المهنية، والقيم المهنية، فالمهنية هي الممارسة المتعمقة اكثر من مفهوم الهواية – التي يمارسها اي شخص على غير هدى من المهنية– وهي الصورة التي تتيحها اليوم وسائل التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص للمتسلقين على ظهر سفينة الصحافة والاعلام، الى مفهوم الدراسة الأكاديمية التي يتلقاها طالب الصحافة والاعلام بين احضان الجامعة ومن ثم يأتي ليوظف خبراته العلمية على ميدان الممارسة المباشرة، وهي الصورة التي حرصت عليها المؤسسة التقليدية في الصحافة والاعلام، وشكلت في مفهومها محورا مهما، وقياسا اكثر أهمية على حقيقة المشتغلين في هذا المجال، ولذلك عدوا حتى عهد قريب من «النخبة» في المجتمع، نظرا لما يحملونه من فكر ناقد، وموضوعي لاحوال المجتمع، ولذلك اطلق على هذه المؤسسة على انها «سلطة رابعة»، وربما لم تعد المؤسسة الصحفية او الاعلامية سلطة رابعة، كما كان من قبل، اما القيم المهنية– التي عولت عليها «المؤسسة التقليدية» فقد ذهبت في الحضيض، وذلك كما قلت لسهولة التعاطي مع المهنة بوسائل التواصل الحديثة، حيث لم يعد لمواثيق الشرف الصحفية، والاعلامية اية قيمة، وكيف لها ان تتحقق وانت تتلقى سيل من الرسائل من كل حدب وصوب، ولا تدري من المرسل هل هو من الشرق، ام من الغرب، من الشمال ام من الجنوب، من الارض ام من السماء، انها حالة من الهلامية المرئية وغير الملموسة عبر السموات المفتوحة التي لا أول لها ولا آخر.

اما الاشكالية الثالثة في هذا المحتوى، هي إشكالية نقص هذا المحتوى، حيث تأتيك المعلومة مبتورة، «هلامية» المصدر، وهذا بدوره ما سوف يعزز المؤسسة التقليدية في الصحافة والاعلام، والسؤال المطروح هنا الى متى سوف تصمد هذه المؤسسة التقليدية في اقناع الناس على انها المصدر الموثوق في ظل هذه المنافسة الشرسة، وغير المتكافئة اطلاقا، لا من حيث الزمن التي تصدر فيه المعلومات والتي تحتاج الى فترة زمنية لا تقل عن (24) ساعة في «التقليدية»، واستثني التلفاز هنا، وثوان معدودة في «الحديثة»، ولا من حيث الامكانيات البشرية والتقنية، ففي الأولى طابور طويل من العاملين على فترات زمنية متتالية، بينما الثانية شخص واحد وبوسيلة سهلة وميسرة لا تتعدى هاتف نقال حديث موصول بالشبكة العنكبوتية، فوق هذا ان المصادر اصبحت هي التي تقوم بالمبادرة قبل ان تصل الوسيلة «التقليدية» الى مكان الحدث، حيث تكون «الحديثة» قد استولت على الحدث، واوصلته الى آخر بقعة في الكرة الارضية.. يقينا أن لا احد حتى هذه اللحظة يراهن كثيرا على ان الوسائل «الحديثة» تسجل اليوم نجاحا تصل نسبته الى (100%)، ولكن هناك الكثيرين يراهنون على انها اخذت زمام المبادرة، وكسبت رهان الزمن الى حد كبير، ولذلك تستوقفني شخصيا، مجموع الاعلانات – وهي احدى اهم المحتويات في وسائل الاعلام «التقليدية» – التي اقرأها في وسائل التواصل «الحديثة» كالتويتر، او الفيسبوك، او خدمة الـ «واتس اب»، حيث يبادر اصحابها، وهم المصدر هنا، الى نشرها عبر هذه الوسائل، فتصل الى اكبر شريحة مستهدفة في اقرب وقت ممكن، فالمصدر اصبح متحررا من قيود «التقليدية» الى حد كبير.

اما الإشكالية الرابعة فهي رخص المحتوى، حيث اصبح اقرب الى مفهوم الـ«ليلام» كما يطلق عليه باللهجة المحلية، اي البضاعة المصنفة في آخر قائمة البضائع الجيدة، وهي البضاعة التي تعرض على الارصفة، فما هي المشقة التي يتكبدها المصدر حتى يوصل رسالته الى المتلقي، وما هي المشاق التي يتحملها المتلقي لكي يحصل على رسالته، كلاهما: المرسل والمتلقي، يعيشان «رفاهية» هذا المحتوى، ان جازت التسمية، حيث لا يبذل كلاهما اية جهود يمكن ان يشار اليها، لذلك تصنف الرسالة اليوم على انها إحدى الوجبات السريعة، وان كانت الوجبات السريعة، غالية الثمن، وقليلة الفائدة، حيث تنشر التقارير الطبية اليوم محذرة من الادمان عليها لضررها الكبير على الصحة العامة، الا ان الرسالة الصحفية او الاعلامية على العكس من ذلك تماما، فهي رخيصة التكلفة، ولكنها ذات قيمة معرفية، وان تخللها مصدر ضعيف، تبقى قيمتها المعرفية موجودة الى حد كبير.

اما الاشكالية الخامسة التي تثار على هذا المحتوى فهي انه يستعرض فيه المصدر مجموعة القيم التي يؤمن بها، وهي قيم شخصية الى حد كبير، ولا تعبر، في الاساس، عن سياسة مؤسسة معتمدة، فهو بذلك «محتوى استعراضي» ينحاز نحو صاحبه او مصدره الى حد بعيد، بمعنى انه لا يخضع لسياسة مؤسسة معينة، لأن المصدر الوسيلة التي يستخدمها كلاهما «الخصم والحكم» في آن واحد، ولذلك، ومنذ مطلع التسعينيات عندما بدأت خدمة «الانترنت» اكثر شيوعا بفعل الثورة الاتصالية بدأت المنظمات ذات التوجهات الخارجة عن سياسات بلدانها، مثلا، تصدر رسائل لجمهورها المستهدف، وتنقل الى الجهور المتلقي مجموع انشطتها، وما تقوم به من جهود، دون ان تنتظر موظفي المؤسسة «التقليدية» لكي ينقلوا عنها ما تقوم به من جهود، نعم اتفق مع من يقول هناك الكثير من الناس حتى وقت قريب، لا يملكون خدمة «الانترنت»، ولذلك ظلت المؤسسة «التقليدية» هي مقصدهم الاساسي للبحث عن المعلومة، ولكن الوسائل «الحديثة» سهلت على موظفي «التقليدية» وصول المعلومة اليهم، وقد ذكر الكاتب الصحفي المعروف عبدالباري عطوان في كتابه (وطن من كلمات)، انه بعد ان التقى ابن لادن في افغانستان، وتوثقت العلاقة بينه وبين تنظيم القاعدة، كانت القاعدة تبعث له من اخبار تود نشرها عن طريق الأنترنت، وهو بدوره يقوم بنشرها في صحيفته «القدس العربي» التي كانت تصدر من لندن، حيث يقول في الصفحة (306) من هذا الكتاب: «لا يزال لدي مجموعة من تلك البلاغات، والتي ارسلت الي بالفاكس، ووقعها بن لادن، ويضيف في الصفحة (307) «عندما انتقلت الى استخدام الانترنت، ارسلت القاعدة كل بلاغاتها إلينا».

لا شك ان هذا الواقع الذي وصلت اليه الرسالة الاعلامية من الوسيلتين: التقليدية والحديثة واقع اربك الاولى «التقليدية» الى حد كبير، ومن فرط هذا الارباك تكاد تتغاضى عن التكلفة المادية في سبيل مجاراة هذا القادم المنافس، وفي خضم هذا الارباك ايضا بدأت تفقد مكانتها، واهميتها، فالمتلقي لايزال ينظر اليها بعين الاهتمام والتقدير، خاصة وانه تعود على تلقي مستوى معينا لهذا الرسالة من حيث النقد، والتحليل التي يفتقدها كثيرا من الوسيلة الحديثة، وبالتالي فعندما تنجر وسائل الاعلام «التقليدية» إلى مستوى الوسائل الحديثة بغية المنافسة، تفقد في المقابل مكانتها واهميتها.

يقول الكاتب البريطاني رتشارد واطسون، في كتابه «ملفات المستقبل» في الصفحة (119) ما نصه: «اصبحت المؤسسات الاعلامية مهووسة بالسرعة، ولذلك علاقة جزئية بالتمويل – لم يعد التمويل قائما، لذا فان هدفها هو عرض الشريط الاخباري الخام على الشاشة باسرع ما يمكن من دون الاهتمام بالتحليل، وذلك ينحج الى حد ما (يوفر مستوى معينا من الواقعية)، لكن الدقة والتعليق يولدان من التدقيق الذي لا يكل في الوقائع وتقصيها والتفكير فيها – وكل ذلك يكلف المال، لا يهم ذلك لبعض الاشخاص، بل ان هناك دليلا مسليا يوحي بأن الاجيال الشابة تفضل السرعة على الدقة، لكن الحقيقة بحد ذاتها مهمة، فالصحافة في النهاية اقيمت على طرح الاسئلة، لا على اعادة طباعة البيانات الصحفية، ليس هناك ما يكفي من الأولى، وهناك الكثير من الاخيرة».

لا شك ان في لحظتها الآنية مراوحة بين الخطأ والصواب، وبين الاقدام والتقهقر، وبين ارتفاع التكلفة ورخصها، وهي مراوحة سوف تفضي الى الكثير من النتائج، ومن قدر له ان يعيش ردحا من الزمن سيقف على الكثير من هذه الحقائق او النتائج، وهذه من طبيعة الاشياء.