المجتمع المدني بين الفاعلية والتراجع

عبد الله بن علي العليان –

يتحدث الكثير من الباحثين والمهتمين بالمجتمع المدني، غياب فاعلية المجتمع المدني في بلادنا العربية، ويرى البعض أنه لم يجد حقه من الاهتمام والرعاية سواء في مجتمعنا الخليجي بوجه خاص والوطن العربي عموما، باعتباره أحد الروافد المهمة تعزيز الديمقراطية الحقيقية وتفعيل الوعي بأهمية الحراك الديمقراطي الواعي في المجتمع بعيدا عن الشعارات الجوفاء والفوضى التحزبية غير الواعية بالظروف المجتمعية، ومناخ متطلباتها الراهنة، ومن هؤلاء بعض الباحثين الغربيين الذين يرون أن الإصلاح الذي يراه الغرب ضروريا للعالم العربي هو وجود مجتمع مدني الإصلاح فاعل. وبغض النظر عن الدعوات الخارجية للإصلاح وهل يتقارب قناعاتنا الذاتية أو مانراه صحيحا أو خاطئا، وبعيداً عن القفزات غير المدروسة وحرق المراحل الفكرية والثقافية، فان المجتمع المدني الفاعل البعيد عن الأغراض والأهداف عن الوطنية، يعد من المؤسسات الهامة في عالم اليوم لأنها تساهم في الاطلاع بمهام جيدة من خلال العمل الطوعي في القيام بوظائف اجتماعية ذات الأبعاد سيما في الاقتصادي والاجتماعي، ويدفع بالعمل المؤسسي إلى آفاق متقدمة، إلى جانب تعزيز الوعي بأهمية الديمقراطية وبلورة مضامين تعددية حتى أن البعض يرى أنه لا يمكن أن نؤسس ديمقراطية فاعلة بدون مجتمع مدني فاعل يدفع بهذه الآلية إلى أفضل خطواتها من خلال الاستمساك بالتوجهات والرؤى الديمقراطية وحقوق الإنسان والدفع إلى تطبيقها ولو تدريجياً في المجتمع العربي الخليجي. ولذلك لا يحتاج « الخطاب الثقافي العربي، كما يشير كريم أبو حلاوة، إلى تأكيد أهمية الديمقراطية وبيان ضروراتها، حيث تشكل تلك الأهمية القاسم المشترك لمعظم التيارات الفكرية والسياسية على الساحة العربية، على الأقل في مستوى خطابها المعلن والرسمي، وإن اختلفت وجهات النظر في مقومات هذه الديمقراطية ومرجعياتها وسبل تحقيقها. حيث يمكن القول إن الوعي المتزايد لأهمية الشرط الديمقراطي قد أضحى واحداً من سمات الثقافة العربية المعاصرة، رغم بعض الاستثناءات، وبدت محاولات إعاقة أو تأجيل هذا المطلب تضعف وتفقد مصداقيتها تدريجياً.ولم يعد مستساغاً القول بأولوية الوحدة أو العدالة أو التنمية، بعد أن ثبت أن تأجيل هذا المطلب ووضعه في آخر قائمة الأولويات لم يسفر عن الإخفاق في تحقيق تلك الأهداف فحسب، بل كان سبباً جوهرياً في ذلك الإخفاق، وهو بهذا المعنى قد ساهم في تفسيره.

صحيح أن الديمقراطية ليست خالية من العيوب أو أنها وصفة جاهزة للنهوض والتقدم بدون معوقات أو سلبيات عند التطبيق، لكن تظل تجسيداً حقيقياً لاختيارات الشعوب ورغباتها وفق الاختيار الحر النزيه إن طبقت تطبيقاً صحيحاً وهذا الاختيار الحر هو الذي في اعتقادي يحقق النجاحات مع الوقت بالاستناد إلى التعدد في الخيارات، وإيجاد ما هو أصلح وأنسب في هذا الاختيار « فالديمقراطية في جوهرها، إذا أمكن الحديث عن الجوهر، تأكيد على حق الشعوب في تقرير مصيرها وصنع حياتها وفقاً لرؤيتها، وهذا ما يتم السكوت عنه غالباً، بل وتقل أهميته عند الحديث عن الديمقراطية الغربية التي تصدر إلينا مصطبغة بمصالح صانعيها وأطماعهم. ونحن هنا لا نقلل من أهمية الديمقراطية الغربية وتجربتها الخصبة، بقدر ما نشير إلى الطابع المزدوج لحداثة الغرب، فحرية الرأي والاحتكام إلى الشعب بالإضافة إلى المساواة السياسية والقانونية وصولاً إلى التداول السلمي للسلطة استناداً إلى مبدأ الاقتراع المباشر أو التمثيلي، تشكل إسهامات فعلية لتجربة الحداثة الغربية. ولهذا فإن مؤسسات المجتمع المدني تلعب دوراً مهماً في هذا الميدان الهام في مسيرة الفكر العربي، والوعي بأهمية دور هذه المؤسسات وتشجيعها على القيام بواجبها الوطني في الإسهام في تحقيق المواطنة الحقة، وما تسفر عنها من حقوق وأدوات فاعلة في تعزيز الديمقراطية.

كما أن هذا المسار المرتجى للتوجه الديمقراطي في الوطن العربي، يتطلب إرادة ورغبة في تحقيق هذا الهدف باعتباره خياراً أو مطلباً شعبياً بغض النظر عن رغبات الخارج وضغوطاته في هذا المجال المهم أن تكون رغبته في ديمقراطية حقيقية بإرداة مجتمعية صادقة، تطالب بها بحسب رؤية محمد محفوظ، وتدافع عن قيمها، وتضحي من أجل تكريسها في الواقع الخارجي. ومن خلال هذا الثالوث (الوعي الثقافة الإرادة)، تتشكل الظروف الذاتية والموضوعية لعملية التحول الديمقراطي.

فالامتزاج الرشيد بين هذه القيم، يوفر إمكانية الانطلاق في خطوات عملية متواصلة في مشروع التحول الديمقراطي، فالممارسة الاجتماعية والسياسية، تستند إلى وعي عميق بالديمقراطية، وثقافة توضح سبل ترجمة هذا الوعي إلى برامج عمل ومشروعات سلوك، وبهذا تضيف الممارسة خبرة وتجربة، تزيد من فرص النجاح، وتبدد كل أسباب الإحباط والتوقف عن التقدم والتطور. وهذا لا يعني أن عملية التحول الديمقراطي، عملية بسيطة وسهلة.

وقد يحاول البعض أن يحرف مسارات الديمقراطية بمفاهيم ومقولات فلسفية لا تمت للديمقراطية كما حرفت الأنظمة الشيوعية والفاشية مفاهيم الديمقراطية في وقت من الأوقات وانكشف هذا التحريف، ولذلك فإن إخراج الديمقراطية كما يقول د/ عبد الكريم غلاّب عن مفاهيمها الحقيقية فإنها « عصية عن التضليل. ولذلك لا يمكن أن يضلل عنها نظام شكلي أو مؤسسات مزيفة، أو انتخابات مغشوشة، أو استفتاءات « مخدومة «….ولا أن يغيب بدكتاتورية واضحة أو مقنعة. فقد انتهى عهد الدكتاتورية، وافتضحت وسائل العنف والقمع التي استعملت في كثير من حقب التاريخ، وبخاصة التاريخ الحديث لتغييب وعي الشعوب بذاتها، وبمصالحها وحقوقها، وبوسائل بناء كيانها وتشييد مستقبلها.

والاختيار الديمقراطي، النابع من كل هذه المفاهيم والقيم والوعي بالذات، اختيار نهائي. إذا كان من الصعب الانحراف به عن مضامينه الحقيقية، فمن غير الممكن القضاء عليه لصالح اختيار آخر، وليكن اسمه ما يكون، فكل اختيار قائم على الوعي والإيمان والاحتذاء والممارسة، ومسنود بالنضال والتضحية، ومدعوم بالتصميم القاطع الذي لا رجعة فيه، كل اختيار من هذا النوع لا يمكن أن ينهزم في منتصف الطريق.

وهذا ما نريد أن يحققه الفكر العربي مستقبلاً في إرساء إصلاحات ديمقراطية متفاعلة مع حاجات الواقع العربي ومتطلباته في تنمية حقة، وتطور يسير بتدرج محسوب قوامه الشفافية والانفتاح على الرأي الآخر المختلف القبول بالاختلاف في إطار ديمقراطية متفاعلة وفاعلة تحقق للفكر العربي ما خسره في العقود الماضية من تراجعات في جوانب كثيرة، والأمل معقود المؤسسات والتجمعات الفكرية كمنتدى الفكر العربي، ومؤسسة الفكر العربي، ومركز دراسات الوحدة العربية، وغيرها من المؤسسات والتجمعات العربية في وضع التصورات والأفكار والبرامج لإرساء واقع عربي جديد يراجع مسيرته بعقلانية واعية من خلال استنهاض معرفي، ورؤية منفتحة على العصر مع التمسك بالهوية والإرادة الذاتية، وعدم الركون والجمود عل الراهن السلبي ولا الخضوع لإملاءات الخارج ومصالحه الخاصة. المهم أن نفعل من دور المجتمع المدني أو الأهلي في مجتمعاتنا ليكون مشاركا فاعل في قضية الإصلاح والتجديد ومقدمة للإصلاح الشوروي أو الديمقراطي في وطننا العربي حتى يكون الإصلاح نابعا من قناعاتنا، وهذا ما نأمل تحقيقه بعد الذي حصل ويحصل في المجتمعات العربية.