فاطمة الشيدي –
1.
أيتها الذاكرة المكتنزة بالحنين والغياب؛ ليس على الوقت أن يأكل خبزك المعد للبعيد البعيد، والمعتّق برائحة الأزمنة والوله، والملطّخ بغبار الذكريات الحافية تركض بخفة في فرجان الشوق، وسكك القلوب الطيبة، ترهف السمع للنبض الرهيف كأغنيات لا تذبل، وتشبع من كلمة الحب التي تنثرها الأمهات غزيرة وعطرة في وجه الحارات، والأطفال، والنهارات المستيقظة على عجل، والليالي الآفلة بغنج الياسمين والطل كأقمار الفتنة، وضحكات الصغار، وحكمة الماء .
2.
أن ترقى جبل شمس في صيف لا يزال يمد أذرعه بحنان جم ليضم الحياة بين يديه، فهذا تحدٍ كبير للحر، كطفل يمد لسانه بمزاح لكل ما لا يعجبه. ستشعر بذلك والمطر يستقبلك بحفاوة، وينثر قطراته لتدغدغ روحك قبل أن تلمس زجاج السيارة، وحين ستنام ليلة باردة جدا بدون تكييف ستصرخ ملء روحك (الله .. يالجمالية المكان يا باشلار! ).
في جبل شمس تشعر أنك بت قريبا من السماء، وبإمكانك أن تمد يدك لتقطف بضع غيمة بيضاء تتهادى فوق رأسك بدلال وهي تبتسم لك وتعدك بالمطر الحنون .
وستشعر بالهيبة القصوى التي تطعن بها الطبيعة الروح تماما، مع كل تلك الجبال التي يستصغر الإنسان ذاته وقوته أمامها.
وتكثر وتمدد وأنت تذهب في جولة ممتعة في ارتقاءات الجبل وامتداداته المتصاعدة للأعلى، أمام كل تلك العظمة الشاهقة.
وحين تشهد أول غروب للشمس، وأول إشراق لها في المكان، ستشهق روحك ممتلئة بجمال خاص مفعم بالإذعان لعبقرية جمال الطبيعة، وتشعر أنك بت خفيفا أكثر مما ينبغي بحيث يمكنك التحليق، أو حتى التلاشي في ذرات الهواء أو في خيوط الضياء.
ذلك الجمال البعيد والمتوحش والقاسي أحيانا، والذي لا يعرفه الكثير من الناس سيصادرك لصالح الحالة والمكان والزمان، لتصبح مأخوذا به تماما، ومهووسا بمفرداته، ومولعا بعظمته ومجنونا بوجودك ضمنه.
ذلك الجمال غير السائد بدءا من اشتقاقات البني والرصاصي في كبد الجبال العظيمة المبتسمة برضا وحنان خاص، وهي تحتضن كل عناصر وكائنات الطبيعة بما فيها الإنسان بود وأمومة طافحة، مرورا بتلك الشجيرات النابتة في قلب الجبال والمكتفية بماء السماء، وليس نهاية بالحيوانات البرية التي تشعر بها متحررة ومنسجمة مع الطبيعة والمكان والطقس.
في جبل شمس حيث عبقرية المكان الآسر، والمضمّخ بعطر الطبيعة، والهدوء الجزل نظرا لقلة البشر، ينعتق الإنسان من كل شيء يثقله، ويتحرر من كل عوالقه ويعود بدئيا بسيطا متحدا مع الطبيعة الأم اتحاد جنيني رحمي حميم، لا يرغب أن ينفك منه، أو يغادر ارتباطه المشيمي العظيم.
كما يلتقي الإنسان مع ذاته في مرآة الطبيعة بشكل مباشر وحقيقي، وكأن ذلك يحدث لأول مرة بصدق وعفوية، ويتبادلان الأفكار والهواجس، ويرمي الكثير منها من أعلى قمة الجبل، ليعود خفيفا ونضرا كسمرة خضراء يراها لأول مرة.
وجاء المنتجع الذي كان تقليديا بشكل يسمح للإنسان بتذوق خصوصية المكان والانغماس فيه ليشكل إضافة حقيقة للحضور المكاني.
جبل شمس مكان يصلح لتطهير الذات من أدران الحياة العالقة في روح وجلد وأهداب الكائن، والعودة للجوهر الأصيل منه في شفافية قصوى، وإقامة حوار ممتد بين الطبيعة والإنسان لزمن يطول أو يقصر، إنه يعرّف الإنسان على ذاته، ويعيد ترميم علاقته بالكون والطبيعة، ويغير نظرته الكلية للجمال. ليعود منه مختلفا كثيرا عما ذهب إليه.
الخميس 9/10/20014
3.
وأنا أسمع صوت (رباب) الصوت الذي أعشق شجنه، وألتذ برائحته التي تشبه رائحة عطر عربي، الصوت المختمر بالحزن، والمعتّق بالألم مهما حاولت غناء الفرح،أفكر أن لكل صوت وقتا، وأن ثمة أصوات للفرح، وأصوات للحزن، أصوات للغياب، وأصوات للحضور. أصوات للمساءات المكتنزة بالتعب أو الوهم، وأصوات للصباحات المرتبكة بالخطوة الذاهبة في الحياة.
فلا يمكنك ولا ينبغي لك أن تسمع صوتا يجرح نهاراتك في البدايات، في الصباح أنت بحاجة لصوت برائحة عذبة وفرح ضمني وبهجة سرية، تسري لو ضمنا في أوصال نهارك وشرايين يومك. صوت يوصل حبائل روحك بأمل خفي، وقوة خارجية كيد الله البيضاء التي تأخذ بيديك.
أصوات كثيرة تصلح للنهارات، للبدايات الناعسة، تضخ القوة في العميق منا، وفيروز غالبا هي المحرك الأجمل للحب والأمل.
4.
يصلني بين فينة وأخرى -رغم تلكؤ البريد، وبعد المسافات، ومخاتلة الوقت- كتاب من صديق ما، في مكان ما من العالم، فرح كبير طري يوصل بين الأرواح رغم أنف المسافة، لغة الكاتب تأخذك لبلده أو لغربته، لصوته وحزنه وفرحه، فتند عن روحك ابتسامة مصحوبة بامتنان عميق «شكرا»، للمسافة والقلوب الطيبة، والثقة الإنسانية والإبداعية التي تجعل كاتبا يرسل بعض دمه ووهج روحه عبر البريد لكاتب آخر.
5.
لم يكن فيلم «The Equalizer» الذي أغرانا دينزل واشنطن للدخول إليه احتراما لمسيرته الفنية الخاصة والعميقة، سوى تكرار مقرف لفكرة البطل الأمريكي، وفكرة اليوتوبيا الأمريكية الجاهزة والتي ما زالت تثبت كذبها يوما بعد يوم، وفكرة الشر التي تطلقها على الآخر ومنه روسيا في حرب ثقافية وفكرية باردة، وضمنية تقوم على الإقصاء وتغيير في اتجاهات العالم لصالحها.
فـ « روبرت» الذي ظهر لنا في بداية الفيلم في صورة العامل البسيط الذي يحاول مساعدة الآخرين بروح طيبة، وقوة خارقة لا يمكن أن تتحقق إلا في المسيح أو الرب، حتى ظننت أن الفيلم يدور حول فكرة الممكنات الكامنة في الروح الإنسانية وكيفية استغلالها، متأثرة في ذلك بفيلم «Lucy « حول فكرة العقل الأكبر الذي شاهدته قبل فترة، والذي يحكي عن توصل عالم لأن الإنسان لا يستغل سوى جزء بسيط من عقله، ولو فعل لكان الأمر خارقا واستثنائيا، وهو الأمر الذي حدث مع فتاة وقعت ضحية لعصابة تصدر مادة تساعد على تكاثر خلايا المخ ، وتقوم بشحن هذه المادة في معدة ضحاياها، إلا هذه المادة انفجرت في معدتها وسرت في دمها، وبالتالي تكاثرت في عقلها ووصلت لذروة العقل وهو مستوى الإله كما يريد الفيلم أن يقول.
ولكن فيلم «المعادل « أو الموازن» يدشن فكرة مختلفة تماما، فروبرت العامل الطيب يقوده حظه لمقابلة بائعة هوى في المقهى التي يجلس فيه للقراءة وشرب القهوة، -لتكتمل صورة الجمال الداخلي المفترض للإنسان الأمريكي المحب للخير والسلام والصداقة- ليعرف أنها مستغلة من قبل مافيا روسية ضخمة متحكمة في الساحل الشرقي وتعمل في غسيل الأموال والجنس وغيرها من الممنوعات.
يذهب روبرت لتخليصها فيبيد بكل مهارة وحرفنة كل أفراد العصابة بكل قوتهم ومهاراتهم القتالية وأسلحتهم الجبارة، وبالتالي فالعصابة الروسية التي يديرها زعيمها من روسيا تغضب لمصرع أفرادها، وتكشر عن أنيابها وترسل من هو أكثر قوة وذكاء وسلاحا، ولكن البطل الأمريكي الخارق -الذي تكشف الأحداث أنه فرد سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA وقد خرج منها بالتظاهر أنه مات بسيارة مفخخة – يبيدهم جميعا بمفرده، في تجسيد كبير للقوة الخارقة والذكاء والمهارة لأفراد هذه الوكالة .
كما أن تلك القوة الخارجية تحمل شفقة ورقة وعطفا داخليا كبيرا، فهذا البطل الذي يحمل كل تلك القوة العقلية والجسدية يحمل قلبا مرهفا مفجوعا بغياب زوجته الحبيبة، وحين تأسر العصابة زملاءه في العمل يأتي ليخلصهم في تضحية واضحة.
ولا يقف الأمر عند النصر في أمريكا، بل يذهب في مغامرة قصوى لقتل رأس الأفعى في روسيا ليحدث التوزان في العالم وليعدل كفة الخير على كفة الشر، وهنا تظهر فكرة العنصرية جلية، حيث زعيم العصابة اسمه «بوشكين» في عملية استغلال مباشرة لرمز ثقافي كبير، وهو شاعر روسيا العظيم «بوشكين» في لا أخلاقية عالية ليست مستغربة من الإمبريالية الأمريكية.
ثم يعود ليلتقي بتلك الفتاة التي تظهر امتنانها لفكرة أن «الإنسان يستطيع أن يكون ما يريد» التي يبثها منذ أول الفيلم، ثم يتركها للحياة الحقيقية التي تختارها، في لاغائية من مساعدة الآخرين سوى بث قيم العدالة والإنسانية، يعود ليقرأ ويكتب ويشرب القهوة ويسهم في مساعدة الناس بوصفه قديسا أو ابا أمريكيا طيبا.
الثلاثاء 7-10-2014
6.
كانت الرسالة (الواتسبية) الصباحية – عن «عبدالله» الشاب الذي قضى حتفه في العيد بسبب الحمى النزفية- بكل تفاصيلها الموجعة عن حياته، وذهابه للموت ببطء، كفيلة بانتزاع روحي من مكانها، وإغراق ماتبقى من يومي في حزن حاد، وتأملات جارحة، ووجع إنساني مفرط الحساسية والألم.
كنت أستحضر وجهه الذي شق طريقه بيننا عبر هذه الوسائل، بعد رحيله، ليخبرنا أن المسافة بين الموت والحياة غائمة جدا، وقصيرة جدا، وأن الموت المراوغ كامن في كل مكان، بين أضلاعنا،وتحت أظافرنا، وفي قلوب من نحب تماما. ومع هذا نتغافله ونمضي به في طريق الحياة حتى ينتصب في وجوهنا بقسوة جلاد، وجلافة حاصد للأرواح؛ فيأخذنا في طريقه، ويفجع القلوب بالرحيل الأخير. وتظل الحيرة تأكل الأحياء لماذا؟ وماذا لو؟
كنت أتلبس روح أمه المفجوعة، وقلب والده وأخوته، وأعرف أنهم الآن يتمنون لو لم يذوقوا طعم اللحم في العيد، مقابل أن يظل هو بينهم. هو الذي لم يمض في الحياة كثيرا ليبرر للغياب فداحة الاقتناص المبكر. ولم يتحصل على فرصة التلويح المناسب التي تجعل الوداع أقل فجائعية ووحشة.
وأستحضر قول ابن الرومي :
ألا قاتل الله المنايا و رميها* *من القوم حبات القلوب على عمد
توخى حمام الموت أوسط صبيتي* *فلله كيف اختار واسطة العقد
على حين شمت الخير من لمحاته* *و آنست من أفعاله آية الرشد
طواه الردى عني فأضحى مزاره* *بعيداً على قرب قريباً على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها* *وأخلفت الآمال ما كان من وعد
لقد قل بين المهد واللحد لبثه* *فلم ينس عهد المهد إذ ضم في اللحد
ألح عليه النزف حتى أحاله* *إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد
وظلّ على الأيدي تساقط نفسه* *ويذوي كما يذوي القضيب من الرند
عجبت لقلبي كيف لم ينفطر له* *ولو أنه أقسى من الحجر الصلد
وأولادنا مثل الجوارح أيها* *فقدناه،كان الفاجع البيّن الفقد
أفكر في كل هذا وأكاد أختنق بالصرخة التي تتصاعد في رئتي، والأسئلة التي تنهش روحي حيرة وتعجبا، لماذا التجاهل للحياة (هبة الرب للبشر) والتفريط فيها من قبل من يستطيع إبعاد وحشه قليلا عن الأرواح؟ وهل لابد من كبش فداء، وقرابين حياة لنتعلم ونعرف ونفهم ونحتاط؟ وتمتد الأسئلة، هل قدمت وزارة الزراعة فعلا كل ما يجب حول حماية الإنسان من حشرة القراد المنتشرة في المواشي؟ وهل قدمت وزارة الصحة كل مايلزم من إرشادات وتوجيهات للمواطنين حول علاقة المرض بالماشية وطبيعة انتقاله ونتائجه، وهي تعلم أن العيد قادم، وفي كل بيت عماني تذبح أضحية؟ وهل نظمت حملات تثقيف وإرشاد حول المرض في المستشفيات والمراكز والمجتمع ( فكما يتضح من رواية موته; حتى المراكز الصحية والمستشفيات لم تستطع تشخيص المرض لعدة أيام كانت كفيلة بتفشيه في جسده، وتمكين الموت من روحه البريئة .. مما يعني عدم وجود تعريف واضح ، وتشخيص محدد له حتى بين العاملين في الحقل الصحي) ؟ وهل أدت وسائل الإعلام الدور المناط بها في التنبيه عن أسباب انتشار هذا المرض، ونتائجه، بكل الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة؟ أم أن وظيفة معظم المؤسسات الرسمية في التحذير والتنبيه تبدأ بعد ظهور الحالات وانتشارها واستفحالها، وفقد عدة أرواح، وقبل ذلك يكون شغلها الشاغل تطمين الناس، ونفي حالات حدوث أي شيء، وتكذيب الشائعات، وتبييض الوجوه وتبرئة ذمة الوزارة والتأكيد على أن (الأمور طيبة، واحنا بخير).
إذن نحن في هذا العيد لم نكن جميعنا بخير .. عبدالله في الأقل (الشاب العشريني، الناجح في دراسته وعمله، والطيب بين أهله، قرة عين والديه، والمواطن الذي كان ينتظر منه الوطن الكثير) لم يعد بخير، وأهله وأصدقاؤه -منذ الآن وحتى آخر العمر- لن يكونوا بخير أبدا .
7.
«الشعر يداوي الجراح التي يحدثها العقل».
نوفاليس