عبدالرزاق الربيعي –
اعتدت في الشهر الأخير من كلّ عام أن استغرق في حوار مع ذاتي مسترجعا الأحداث التي مرّت بي خلال عام كامل، وهي عادة لازمتني منذ سنوات بعيدة، تبدأ باستحضار تلك الأحداث ذهنيّا، وتنتهي في اليوم الأخير من العام بتدوينها في دفتر صغير، مفردا حقلين الأوّل أبدأها بالإنجازات، والثاني للإخفاقات، ثمّ أفتح صفحة جديدة للعام الجديد، أدوّن به أهم ما أسعى لتحقيقه خلال السنة الجديدة، وغالبا ما تستند على الأهداف المؤجلة من العام الذي طُويت صفحاته، ولم أوفّق في تحقيقها، وهذه العادة كانت شرارة لكتابة مسرحيّتي «العالم ليس مجرّد أزرار» التي أخرجها، ومثّلها الفنّان فاروق صبري، وقدّمها على أحد مسارح أوكلاند عام 2010 تحت اسم «لا أحد يطرق بابي»، وخلال ذلك الاستغراق، وتلك المراجعات، التي أستحضرُ طقسها احتلّت حيّزا من ذاكرتي، وكياني، مرّت بي، خلال العام، أسماء الكتب التي قرأتها، والأماكن، والمعارض التي زرتها، والعروض المسرحيّة، والسينمائيّة، التي شاهدتها، والحفلات الموسيقيّة التي حضرتها، والأعمال التي أنجزتها، والمكاسب التي نجحت في تحقيقها، ولا أقصد هنا المكاسب الماديّة، بل أيّ مكسب نحقّقه، فالتعرّف على صديق جديد مكسب، وإضافة فقرة نافعة لبرامجنا اليوميّة، أو الأسبوعيّة مكسب، والتخلّص من عادة ذميمة مكسب أيضا، فعام كامل، هو غصن كبير في شجرة العمر، وليس بالحدث العابر، وما أعمارنا إلّا طبقات من أيّام، وشهور، وأعوام، والشاعر يقول:
دقّات قلب المرء قائلة له:
إنّ الحياة دقائقٌ وثوان
وهذه المراجعات تمثّل خطّة عمل للعام الجديد، متفائلا فقد ورد ذكر (العام) دالا على التفاؤل والخير كما في قوله تعالى: (عامٌ فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون) خلافا لمعنى، ودلالة كلمة (السنة) التي وردت في القرآن مقرونة بالحزن، والألم، والأحمال الثقيلة، كما في قوله تعالى في سورة يوسف «وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ»، وقوله في الآية الكريمة من سورة الأعراف «وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَرُونَ، وفي الحديث الشريف اللهم اجعلها عليهم سنينا كسني يوسف» وهي سنوات الجدب، والقحط التي ضربت مصر في عهد سيدنا يوسف (عليه السلام)، وهو ما يسمّيه اللغويون «معنى المناسبة»، إذ تكتسب المفردة معنى حسب السياق الذي أوجدته، ففي اللغة، كما يرون، لا يوجد فرق بين مفردة وأخرى.
وبعيدا عن هذا السجال أردت القول: إنّ ما نفتقده في حياتنا هو (الأمل والتفاؤل) ومن ثَمَّ وضع خطط واضحة نسير على نهجها، فإذا كنّا نفتقر إلى خطط العمل اليوميّة التي يجب أن نضعها صباح كلّ يوم قبل البدء بالعمل، فنغرق في دوّامة من الأعمال التي لا نتمكّن من إكمالها، ونفتح ملفّات أعمال أخرى لم تكن في الحسبان، فلا ننجز هذه، ولا تلك، ذلك لأنّنا لم نضع خطّة واضحة لعملنا، وبرنامجا محدّدا، فتتراكم الأعمال، والملفات، والمشروعات، ونجد أنفسنا عاجزين عن إنجاز أيّ عمل، وهي مسألة يجب أن يتعلّمها النشء الجديد في المراحل التعليميّة الأولى، كما هو سائد في العالم الغربي المتقدّم.
وأقول لكم: إذا كنّا نفتقر إلى خطط العمل اليوميّة، لنحاول أن نضع خطّة عمل سنويّة تجعلنا نخجل من أنفسنا حين نجلس في الأيّام الأخيرة من كلّ سنة، أمام أنفسنا ونجد أنّنا لم نحقّق شيئا يدعو للفخر، والاعتزاز بالذات!! وإنّ عاما كاملا من أعمارنا ضاع هدرا في تفاصيل لا طائل منها، وعلاقات استنزفت طاقاتنا، ومشاوير أكلت وقتنا، وجلسات أمضيناها في الثرثرة الفارغة، ودروب لم تؤدِ إلّا إلى المزيد من الأوجاع، ولسان حالنا يردّد أبيات الشاعر الكبير عبدالرزّاق عبدالواحد:
بددٌ كلّ عمره بددُ
القوافي والجاه والولدُ
والمواعيد مالها عددُ
بددٌ كلّها وأوجعها
إنّه الآن عمره بددُ
وأنا على يقين من إنّنا لو حاولنا عقد هذا الحوار مع أنفسنا في هذه الأيّام، قبل أن يلفظ العام أنفاسه الأخيرة، وقمنا بمراجعة سريعة، لما مرّ بنا خلالها، ووضعنا خطّة لما نطمح إلى تحقيقه في السنة الجديدة، نكون قد وضعنا ركيزة مهمّة في حياتنا لكي لا تذبل زهور أيّامنا في حدائق العمر.