فاطمة الشيدية –
1.
«الخريف فصل الغياب، وموسم الهجرات، واستنهاض الحنين»؛ لعل هذا بعض ما تهمس به الوريقات الصفراء لبعضها في التداعي، الوريقات الصفراء التي تنسلخ من جسد الشجرة الأم بلا إرادة، أو باستجابة حمقاء لدغدغة الهواء، وجنون التحرر من ربقة الانتماء، لتذهب في جنون الوقت، وفوضى المواسم، ولتصبح في مهب الريح والأقدام، وهو أيضا بعض ما تسرّه الطيورالمهاجرة للأفق.
الوريقات الصفراء، والطيورالمهاجرة؛ تلك التي تشبه بعض البشر، في قدر المنافي والاغترابات الوجودية والكونية.
2.
رحلة رقم G9117 الشارقة- مسقط
على متن الغيم تحلق الأرواح في رحلتها الطائرة إلى الماء، وفي الماء حياة وفي اللغة ماء،ليست الرواية وهمومها وأشجانها وأحلامها سوى مدخل ما لتتلاقى الأفكار والأرواح، القليل من الكلام يتصدر الجلسات ويعتلي المنصة، والكثير منه يجلس في بهوالفندق، ويذهب في المشاوير، ويتقدم الجميع على طاولات الطعام، نقاشات تخلع عباءة التوجس والتربص والحذر، وتخفف حدة الجدية الآثمة أمام الفرجة التي تنتظر منك أن تأتي بفتح مبين.
الشارقة كأم فاتنة تفتح ذراعيها على البحر تماما، الشارقة الدافئة كمسقط بموازاة خط الاستواء، فتحت لنا قلبها المبتهج بالفرح والتاريخ والوعي والثقافة، للشارقة رائحة عبقة لا تخطئها الأرواح، رائحة عريقة مهما تمدنت، مزيج بين الصندل والماء والزعفران والعود، لعلها تختصر رائحة الجزيرة والبحر، وغناء الصيادين، وحكاية النسوة عند السيف في انتظار المحبوب.
ولها رائحة الكتب العتيقة، رائحة التاريخ والعبق الذي تتنفسه الأرواح في غنائها الذاهب في الحلم، ووعيها المتصاعد في الذاكرة والعقل. ولها حكايات البحر والتاريخ التي تثرثر بها الأمكنة أينما جلست، ليحكي لك عنه وعن تاريخه، وعن حاضره الجميل.
في الشارقة والماء والكتب ليس عليك أن تتكلم كثيرا، عليك أن تصمت لتسمع فقط وهذا ما كان في الكثير من الوقت، والقليل من الزمن قبل أن أغير الرحلة وأعود على جناح السرعة في رحلة مضادة «الشارقة – مسقط» هذه المرة.
3.
جناح رقم «3» سرير رقم 11
فجأة وعلى غير ترقب أو توقع أو حتى هاجس يخطر في بالك؛ يطعنك القدر في روحك، ويأتيك خبر أن «روحك» أصبحت في العناية المشدّدة، وأنت بين السماوات والأرض، تتحرق روحك الأرخص جنينا وخوفا لروحك الأغلى، هكذا تحدث الأشياء غالبا في مخططات القدر العجيب، هو لا يستأذنك الوقت ليصيبك في مقتل، ولا يخبرك سلفا لتتدبر أمورك، ولا يتفاوض معك لتأخذ احتياطاتك الزمنية والمكانية، إنه يطعنك في السويداء تماما وفقط.
إذن أمي ترقد في سرير المرض وأنا بعيدة عنها، يدي بعيدة عن يدها لتشدَّ عليها، وتؤنس وحشتها وتقول لها: «كل شيء سيكون بخير ياغالية»، وعيني بعيدة عن عينها لتقول لها أنا هنا بين يديك «وعينيك الأغلى من كل الكون ستكونين بخير»، وجسدي بعيد عن جسدها ليضمها بلهفة ويهدئ قلقها كما كانت هي تفعل طيلة العمر.
غيّرت رحلة السماوات للأرض، وعدت لقلبها لأطمئنه بقلبي الذي سيسكن في قلبها تماما، لتهدأ بعد عملية قاسية، أنا الخائفة أكثر منها، أنا التي لا تثق في كل شيء غالبا، ماذا فعلوا لها، وماذا سيحدث بعد ذلك؟
كنت متوجسة وقلقة وكنت أراقب عن كثب الأطباء والممرضات يعملون كخلية النحل، بجدية وإنسانية وتفان منقطع النظير، في الليل والنهار على حد سواء، ومع الجميع بذات الروح القائمة على الرحمة والحياد والهدوء لدرجة البرود أحيانا، في مكان الخطأ فيه ممنوع؛ لأنه يساوي روحا بشرية.
أتأمل المكان الذي يعيد ترميما ولأم تشظيات وجروح وكسور ووهن الأجساد الخائنة لأرواحها المتشبثة بحبائل الرحمة والأمل؛ أدرك كم أن الطب مهنة عظيمة، بما في ذلك كل الطاقم الطبي، وملائكة الرحمة.
إنهم ينقذون الأرواح ويرأفون بها، ويخففون تعبها، أمام كل هذا القتل المجاني، وقسوة الإنسان والطبيعة في كل مكان. وهل يوجد ما هو أجمل وأعظم من ذلك!
وقد جرت العادة أن نرفع أصواتنا جهرا بالقدح والذم فقط، ونكتب في الشأن العام كمن يحرك سبابته بالعنف والتعنيف، وقد تبدو حالة المديح مخجلة، كمن يتغزل بصورته في المرآة. ونمضي في الحياة مرددين قول درويش»لاشيء يعجبني»، ومستحضرين كراهية المداحين الذين علينا أن نحثَّ وجوههم بالتراب كما أمرنا الرسول الكريم.
لكن في وقت ما يجب أن نستشعر الامتنان ونقدم الشكر ونلهج بالمديح فعلا. وقد كان عليَّ أن أفعل ذلك، أنا التي صرخت بصرامة في وجه أخوتي عبر المسافات البعيدة خارج المكان؛ «لا يمكن أن تعمل عملية في محل الجزارة ذلك أبدا.عليكم أن تأخذوها لمستشفى خاص» مستحضرة كل القصص التي تناقلتها الألسن والأجهزة عن الموت الجاهز المتواري خلف مبضع الأطباء في أبسط عملية جراحية يقومون بها فيه، وتتهادى أمامي روحا جدي وجدتي المغادرين قبل وجع قريب. ولذا وحين كان لابد أن يوقعوا؛ فعلوا دون أن يخبروني لأن الطبيب رفض أن تخرج من المستشفى؛ لأن ذلك خطر على حياتها، ولكنني بعد أن رجعت لأقيم معها كانت الصورة تختلف تماما .
أخجلتني تلك الابتسامة على كل وجه يواجهك في مرايا المكان، وتلك التحية الرائعة من ملائكة الرحمة؛ وكلمة أمي التي تنادي بها بعض الممرضات أمهاتنا الكبيرات الضعيفات في وضع المرض. وحضورالأطباء بحنان الكبير واهتمام أغلبهم بالتفاصيل الصغيرة للمريض، والإصغاء لتأوهاته بلا ضجر ولا ملل. وأشياء أخرى كثيرة .
كانت أمي النائمة بين أيديهم تشعر بالطمأنينة .. وأنا أشعر بها .
نعم إنهم يستحقون الثقة والتقدير والمديح. إنهم ملائكة الرحمة ويد الله البيضاء في هذا العالم المتشح بالكراهية السوداء في كثير من الأحيان في مقابل القليل من الحب والرحمة. يقومون بأدوارهم الإنسانية بصدق ومحبة خارج نفعية المادة، أو حتمية الفعل القائم على الجبر أو التملق.
إنساننا الجميل يبهرنا دائما، ويوثق علاقتنا بالحب والخير والجمال، خرجت أمي من المستشفى، وظلت ذاكرة المرض والموت عالقة بالجناح الذي لن يحلّق بل سيستقبل الأرواح الخائفة من التحليق نحو الغياب، وبالسرير الذي سيتقبل مريضا آخر، جسدا موجعا وروحا خائفة، وأملا بالشفاء على يد جند الله المجهولين في المستشفيات.
4.
«الحياة معسكر تدريب للوصول للحياة الأخرى، لكن التدريب يكون أحيانا أكثر مما ينبغي»
كانت هذه العبارة الرائعة من فيلم Odd Thomas والتي تصلح حكمة إنسانية عميقة وجارحة، هي أجمل ما قيل في هذا الفيلم، على لسان بطله، ستورمي اود، الذي يتمتع بقدرات خارقه في رؤية الأرواح الشريرة التي تحكم العالم ضمنيا، ولا يراها الجميع، بل أفرادا تنتقيهم العناية الإلهية لمساعدة البشرية في مواجهتها، ووأد «الغريب» منها، ولذا آمن برسالته في تخليص العالم من شرها، وحاول بكل صدق مواجهتها، وتحديها، حتى خسر حبيبته، وتوأم روحه في تلك المواجهة الكبيرة والتي انتصر فيها، ونجح في مهمته العظيمة.
بينما لم يقل فيلم «Babadook» الذي يعرض في السينما حاليا شيئا، مع أنني كنت أحاول جاهدة أن أخرج بفكرة صغيرة أو فائدة ما، توازي قيمة مبلغ التذكرة، والوقت الذي قضيته في محاولة فهم الرسالة التي يريد الفيلم أن يقولها لنا، خارج الشتات الذي أوحى لنا به بين المرض النفسي للطفل، ثم للأم نتيجة فقد زوجها، ليصل بنا في النهاية لفكرة أنهم يعيشون في بيت مسكون، تتحكم فيهم روح شريرة تحاول النيل منهما، ولكنهما يواجهانها بكل قوة وثبات وإيمان، وهي فكرة باتت مكرورة وجاهزة جدا، حتى يستحيل تقبلها واستيعابها ناهيك عن التعاطف معها أو تقديرها. ومازلت أتساءل عن جدوى صناعة أفلام كهذه، وتصديرها للعالم لرؤيتها، وعن المعايير التي يجب على القائمين على اختيار الأفلام في دور السينما وترجمتها للعرض في بلادنا، سيما والكثير من الأفلام التي تعرض، تخرج منها وأنت خاوي الوفاض، وحزين على مبلغ المال والوقت الذي أضعته.
5.
كما كانت تبدو عظيمة وهي تقاوم السقوط لتموت واقفة، وتستسلم للقضاء، وتحتسب بخشوع، وتذهب للموت بإيمان وصبر، لتقدم درسا كونيا لكل عابر لها، وتجبره على التوقف والتدبر في النهاية. تلك الشجرة منكسرة الظهر والروح، التي أخذ الإنسان منها حاجته وقرر التخلص منها، كي لا تؤثر على مظهر كيانه الإسمنتي الجديد، ولكنها تأبى ككل الأشجار إلا أن تموت واقفة،كالأمهات اللاتي يكسرهن الزمن والأبناء أحيانا.
6.
نفس الابتسامة التي طالما سحرتنا على الشاشة، ذلك الدفء الكامن في الروح، والذي ينبثق من الثغر كشمس خرافية محملة بالبهاء، والطاقة والفرح. ناهيك عن أدواره الكبيرة التي كتبت تاريخا من الفن والوعي والجمال في الذاكرة العربية.
أمير السينما السورية «جمال سليمان» في عمان ذات يوم .. وفعلا لكل امرئ من اسمه نصيب.
7.
«يستطيع أي أحمق جعل الأشياء أكبر وأكثر تعقيدا، وأكثر عنفا. ولكن الأمر يتطلب لمسة من العبقرية والكثير من الشجاعة، للتحرك في الاتجاه المعاكس»
إرنست شوماخر