مروى محمد إبراهيم -
«الإنترنت ما هو إلا مثال أولي لمدى تطور نشاط الإرهابيين العابر للدول والقارات، وبالتالي فعلى الدول اتخاذ إجراءات فعالة عابرة للقارات تتواءم مع هذا النشاط الإرهابي» .. كلمات قالها بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة عبر من خلالها عن مدى العلاقة الوطيدة التي تربط حاليا بين الإنترنت والإرهاب الدولي الذي أصبح يهدد كل شخص وعائلة في بيتها.
فعلى الرغم من أن الجميع يرى أن الإنترنت، أو بمعنى أدق مواقع التواصل الاجتماعي، هو منفذ حر للتواصل بين البشر بدون أي قيود اجتماعية أو قانونية تحول دون مثل هذا التواصل الإلكتروني، إلا أن هذه الحرية تحولت في الآونة الأخيرة إلى وسيلة لبث الكراهية بين الشعوب وإثارة القلاقل والاضطرابات والفتن. وفوجئ العالم في الآونة الأخيرة بأن «الإنترنت» تحول من مصدر للترفيه والتعبير عن الذات إلى حيوان كاسر له أنياب مدببة.. فلم يقتصر خطر الشبكة الدولية على القرصنة الإلكترونية والسرقة الصناعية ولكنه امتد لتنظيم الهجمات الإرهابية وإيجاد الأزمات السياسية والاضطرابات عبر المحيطات. ومع خروج الخطر الإلكتروني عن نطاق السيطرة، يبدو أن الحكومات لم تجد بدا من التدخل لفرض قيود على هذا الكائن المتحول الجديد. وبغض النظر عما إذا كان هذا التدخل محموداً من عدمه إلا أنه يمثل سلاحاً مضاداً لردع الهجوم القادم من سلاح افتراضي أكثر فتكاً لا يمكن معرفة مداه حتى هذه اللحظة. ربما تكون هجمات 11 سبتمبر 2001 هي الشرارة الأولى، وغير المتوقعة لخطر الإنترنت. فالضربة القاصمة التي هزت الولايات المتحدة والعالم بأسره لم تكن سوى جرس إنذار لما يحمله الفضاء الإلكتروني من مستقبل مظلم للعالم بأسره. فقد كشفت التحقيقات المكثفة التي أعقبت هذه الهجمات الدامية عن سلسلة من الاتصالات الإلكترونية التي شملت تفاصيل وإعدادات واتفاقات لتنفيذ واحدة من أسوأ التفجيرات في التاريخ، بدون علم السلطات الرسمية. وهو ما دفع الإدارة الأمريكية إلى إنشاء وزارة الأمن الداخلي. وبدأت في اتخاذ إجراءات استثنائية لما وصفته بالتنسيق الأمني والذي دفعها إلى وضع الأسس لأول نظام رقابي على الفضاء الإلكتروني، لتطلق أول رصاصة قاتلة لشعارات الحرية والخصوصية، متجاهلة كل الانتقادات المحلية والدولية.
وبالرغم من التحركات الأمريكية العاجلة لإيجاد فضاء إلكتروني آمن، إلا أنه مع ظهور مواقع التواصل من «تويتر» و«فيسبوك» و«يوتيوب».. وما إلى ذلك، واجه العالم تحديا إلكترونيا جديدا لم يدرك عواقبه إلا بعد فوات الأوان. فقد نظر الجميع لمواقع التواصل الاجتماعي والمدونات على أنها مساحة حرة وآمنة للتعبير عن الرأي. وتمتعت هذه المواقع بشكل من الرقابة الذاتية، فالمستخدم هو من يقبل المادة المعروضة أو يرفضها وهو ما أتاح للجميع فرصة للكشف عن أكثر أفكارهم وخيلاتهم جموحاً بدون قيد أو شرط.
ولكن مع اندلاع موجات الربيع العربي في بداية 2011، كشفت هذه المواقع عن وجهها الآخر الأكثر شراسة. فالميلاد الأول لموجات الربيع في تونس ومصر ومن بعدهما اليمن وليبيا سوريا كان إلكترونيا. وتواصل الحشد واستمر التصعيد الإلكتروني إلى أن اندلع أسوأ انفجار للغضب الشعبي تشهده المنطقة في تاريخها. وعاشت الدول العربية أكثر من أربعة أعوام من الاضطرابات والقلاقل الأمنية والسياسية، صاحبها بالطبع موجة لا تحسد عليها من التدهور الاقتصادي، ناهيك عن تبعات هذه العناصر المميتة من تدهور اجتماعي وانهيار أخلاقي نتيجة لتراجع سلطة القانون ونجاح «المتمردين» في العالم الافتراضي في التلاعب بأفكار الشباب وضعاف النفوس، مما أوجد عالما فوضويا غير آمن يصعب السيطرة عليه وأصاب الإقليم بحالة من الوهن الأمني جعله فريسة سهلة للإرهاب والجماعات المتطرفة.
وعلى الرغم من أن الإرهاب هو مرض العصر الحديث، إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي أسهمت بشكل كبير في نشر الفكر الإرهابي عبر المحيطات ولعبت دوراً مهماً في تجنيد المئات في مجتمعات، ربما كانت من قبل بعيدة المنال. فخلال الأشهر الماضية، ومع ظهور جماعات مثل تنظيم «داعش» الإرهابي وغيرها من الجماعات الإرهابية التي ظهرت في فترة تزامنت مع موجات الربيع العربي، وحالة الفوضى التي عمت الإقليم وأوجدت بيئة مواتية لانتعاش مثل هذه الجماعات وتمددها.
ومن الملاحظ أن هذه الجماعات تنشط بشكل كبير على المواقع الإلكترونية المختلفة حيث نجحت في الدعوة لأنشطتها الوحشية وتبريرها عبر «تويتر» و«يوتيوب» ونجحت في مخاطبة كل مجتمع بلغته وتحدثت من منطلق فكره وواقعه مما منحها الكثير من المصداقية المزيفة بين العناصر الشابة – والأكثر سطحية وربما معاناة في هذه المجتمعات. ولم يقتصر نشاطها على إيجاد المبررات ولكنها نجحت أيضا في تجنيد الكثيرين عبر الأثير. والطريف أن هؤلاء المجندين، الذين تخلو عن حياة الرفاهية في فرنسا وبريطانيا وتوجهوا للانضمام إلى صفوف داعش، يعرضون تجاربهم – الإيجابية من وجهة نظرهم – على الكثير من المواقع وهو ما يساعد في تجنيد صف ثالث ورابع من المجندين.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد خلقت الدعاية الإلكترونية نوعاً جديداً من الإرهابيين الذين يعرفون حالياً باسم «الذئاب المتوحدين» وهم مجموعة من المتطرفين المختلين عقليا، الذين لم يتجرأوا على التخلي عن حياتهم والسفر للانضمام لصفوف أي جماعة إرهابية ولكنهم شرعوا في الانتقام من مجتمعهم بأيديهم مثلما حدث في أستراليا والتي شهدت سلسلة من العمليات من هذا الشكل، ربما كان آخرها واقعة احتجاز الرهائن في مقهى «مارتن» في سيدني. وتفشي هذا الوباء في العديد من الدول الأوروبية وأصبح مصدر رعب ليس للدول الغربية فقط ولكن للعالم كله. فهذه الفئات «المستذئبة» من الصعب التنبؤ بتحركاتها أو أفكارها أو نواياها، خاصة لو أخذنا في الاعتبار تركيبتها النفسية المضطربة.
ولكن في ظل تصاعد القلق الراهن من مخاطر وعواقب الإنترنت، لجأت الكثير من الحكومات إلى فرض إجراءات استثنائية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل حظر يوتيوب وتويتر في تركيا لكبح الهجوم الشرس على الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته التي واجهت أسوأ فضيحة فساد في تاريخها خلال العام الماضي، وهو ما دفع البعض لاتخاذ إجراءات وصفها الكثيرون بالقمعية والمتهورة. وواجهت تايلاند موقفا مشابها، حيث اضطر الجيش التايلاندي إلى فرض قيود مشددة على مواقع التواصل الاجتماعي لوضع حد للمظاهرات التي تشعلها المعارضة وتثير الاضطرابات في الشارع، والتي تواصلت بالرغم من الإطاحة بحكومة رئيسة الوزراء السابقة يانجلوك شيناوترا. ولم يكن الوضع في الولايات المتحدة أفضل حالا، فبغض النظر عن ادعاءات الديمقراطية الواهية، كشفت الأشهر الماضية عن أكبر فضيحة تجسس أمريكية حيث تجسست أجهزة الأمن على أفراد الشعب الأمريكي ورصدت اتصالاته وتحولاته وبياناته عبر أهم المواقع البحثية مثل «جوجل» و«ياهو»، ناهيك عن كل مواقع التواصل الشهيرة وغيرها من المواقع المحدودة الاستخدامات وتجاوز الأمر الرقابة لأسباب أمنية، بل إن المحاكم الأمريكية سجلت سابقة تعد الأولى من نوعها وهي النظر في قضية تهديد سجين لزوجته السابقة عبر مواقع التواصل. وهو الأمر الذي من شأنه الحد من الحريات الشخصية في أكبر دولة داعمة للديمقراطية في العالم.
وبالرغم من نظر البعض إلى الإنترنت على أنه آفة العصر الحديث، خاصة بعد أن أصبحت الحرية التي ينعم بها فضاؤه الإلكتروني هي أحد مصادر الدمار وإراقة الدماء على أرض الواقع. ويبقى الحل الأمثل لترويض هذا الوحش الافتراضي هو إخضاعه للقوانين الدولية. فلن يضير أحدا الحد من الحريات على الإنترنت في مقابل الاحتفاظ بإيجابياته فيما يتعلق بسهولة الاتصالات ومرونة الحصول على المعلومات.