أحمد بن سالم الفلاحي –
dreemlife11@yahoo.com –
يأتي العام، ويذهب الآخر، ديمومة من الزمن تتوالى علينا بأفراحها، وأتراحها، نلهو مرة، وتتنازعنا الكروب والمحن مرات، يكبر في أعماقنا الأمل، ونستسلم مرات لليأس والقنوط، نرى فيه الحياة متسعا لا حدود له، ونرى في مرات أخرى مسافة لا تتعدى رؤية العين المجردة، ننازع هذا وذاك في رزقه، ونغض الطرف أن الرزق من رب العباد، ونتقاسم مع آخر لقمة العيش البسيطة مقرين بفضل الله على عباده، (وما يظلم ربك أحدا).
نتسامى في مواقع كثيرة بأخلاقنا، وقيمنا، وننجر في مواقف أخرى وراء أمور تافهة، لتأكيد حالتنا الضعيفة أمام المغريات، ننتصر في بعض أحيان للباطل، ونترك الحق جانبا، ونموت في أحيان أخرى لأجل أن ينتصر الحق، ونرى في الباطل الظلم كله.
يحدث هذا مع كل سنوات حياتنا الممتدة قصرت هذه المدة أو عمرت، وماذا عساها أن تعمر، حيث تظل أعمارنا قصيرة مهما امتد بها العمر، ولكن لأننا كلفنا بأعمار الأرض، وإضفاء مسيرة الحياة عليها، فإننا لا ننتبه كثيرا الى مسألة قصر العمر، وننساق اكثر الى امتداده، ونحلم اكثر بحياة افضل، وحق لنا ذلك، ولولا هذه الثيمة، «تحقيق أمل» لم يتحقق بعد، لتوقفت الحياة عند مستوى معين، ولتنتابنا أحاسيس التقهقر، والتراجع، واليأس والقنوط، وللبسنا انفسنا لباسا قاتما مهلكا، «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل»، فهذه المراوحة الزمانية تمر علينا كل يوم، وتوقعنا في حقيقة الاختلاف والتوافق، فلا تكاد كل أفعالنا، وأقوالنا تخرج عن هذه الصورة التصادمية بين الاختلاف والتوافق، ومنها تنطلق كل أفعالنا، وكل آمالنا، وكل اشتغالاتنا في الحياة، ولذلك يردد دائما «الاختلاف لا يفسد للود قضية»، وتبقى الصورة ماثلة هكذا، مهما امتدت الأيام، وتعاقبت السنون، وتوالت الأجيال جيلا بعد جيل، تظل محنة الاختلاف والتوافق قائمة، ولا نكاد ننجز احدهما إلا ونصطدم بالآخر، حيث لا حالة منهما تعيش ديمومة البقاء، وكلاهما يؤدي الى الآخر، ومن هذه الصورة تختلف أفعال البشر، فتقوض النجاح في موقف، وتعلي من شأن الاختلاف في مواقف أخرى، ولهذا تستمر مآسي الإنسان على امتداد هذه الكرة الأرضية، ومن كليهما يستمر النشاط الإنساني.
يسجل التاريخ الزمني أقرب نقطة للانطلاق نحو محاسبة الزمن على إنجاز البشرية كان قبل عشرين قرنا، وها هو اليوم يدخل تعداد القرن الحادي والعشرين، والكم المنجز طوال هذه الرحلة الزمنية لا تكاد تخرج عن منطق، أو مفهوم الاختلاف والتوافق، وأتصور شخصيا النتيجة النهائية لهذين الموقفين هو ما هو المتحقق على ارض الواقع، ففي جانب الاختلاف دفعت البشرية ثمنا باهظا، حيث غيبت ملايين البشر في مواقف مختلفة، اغلبها لا تخرج عن حرص الإنسان الفرد على البقاء، ولو كان ذلك على حساب الإنسان الفرد الذي يتقاسم معه الحياة بحلوها ومرها، ولعل البذرة الأولى لهذا الاختلاف هو ما يسجله التاريخ البشري في موقف التصادم الذي حدث بين ابني آدم عليه السلام، عندما قتل قابيل هابيل، عند منطلق الحياة الأول، وفي جانب التوافق يظل المنجز المادي المتحقق على ارض الواقع شاهدا على العصر، هذا العصر الذي يمثل الإنسان احد جوانبه المهمة في هذا الكون، وهو إنجاز أيضا لا يمكن غض الطرف عنه، فهو كبير بكبر الزمن، وعظيم بعظمة هذا الإنسان الذي آتاه الله العقل والحكمة في مواقف كثيرة، ولعل مبدأ الاختلاف والتوافق عائد عليه هو اكثر من غيره من الحيوات التي تعيش على الأرض بحكم تميزه بالعقل الواعي والتفكير المدبر، نعم صحيح أن كل الكائنات تلمس فيها هذين المتضادين، ولكن انطلاقهما في هذه الكائنات يأتي من باب الغريزة، ومتى أشبعت هذه الغريزة من شأن ما، تماهت هذه الصورة عندها إلى حد ما، حتى تتفاعل الغريزة مرة أخرى من جديد، فغريز العيش هي التي تتقاتل من أجلها حيوانات الغابة، وتبقى «الحياة للأقوى»، حتى تهدأ فورة الجوع، بعدها تعيش في سلام مؤقت، وهكذا تستمر حياتها على هذه المراوحة، أما الإنسان فلا يكفيه تحقيق طموح معين ليوقف عنده نزعة الاختلاف، حيث يعيش الاختلاف كله طوال سني حياته التي تطول أو تقصر.
كم من السنين التي مرت، ولا تزال الحياة تسجل نفس هذه الديمومة والقائمة على وجهتي النظر هذه، والذي يحصي المنجز المتحقق لدى الإنسان، وخاصة في جانبه المعرفي على وجه الخصوص، يصاب بصدمة ناتجة عن حقيقة الاختلاف ذلك أن النتائج مأساوية ومحزنة وقاسية على النفس لأنها ذهبت بالملايين من البشر، كان يمكن أن يكون لهم موطئ قدم جميل على امتداد عمر هذه البشرية التي نمثل نحن احد أفرادها، فكم من الحروب الطاحنة التي قامت على وجه هذه الأرض، وكم من الممالك التي دمرت، والأنفس التي استبيح دمها تحت مبرر واحد وهو البقاء منتصرا، ربما يقود هذه الانتصار شخص واحد فقط، وربما مجموعة صغيرة لا تتعدى أصابع اليدين، دون أن يكون لها تفويض بشري عام، وإنما نزعة ذاتية تدفع بهؤلاء جميعهم لأن يغتالوا الحياة برمتها، ويعيشوا البشرية كلها في مآس لا أول لها ولا آخر، وهكذا تستمرئ البشرية بقاء الاختلاف لأجل تحقيق مآرب لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا ما يؤسف لها حقا.
في المساحة التي تجمعنا بالآخرين من حولنا نحاول أن نكون اكثر قربا، ولو لحظة زمنية فارقة، ونعدها فارقة لأننا بعد مفارقتنا لهم لا ندري ما الذي سوف يحدث لهم، أو يحدث لنا، ويأتي اقترابنا منهم لأننا نود أن نكون في مرحلة التوافق: سواء التوافق على العواطف، أو التوافق على المصالح المادية، أو التوافق على عدم الاختلاف، أو التوافق على الأشياء التي تقربنا اكثر، هذه اللحظوية تربط دائما – كما يراها – بأنها اقتناص فرصة، واستغلال موقف، وإن كنت لا أميل الى هذا الأسلوب من التقارب، ولا أعمل عليه كآلية للتعامل بين أي طرفين، هذه إحدى المواقف التي يجبرنا عليها الزمن «الوقت كالسيف أن لم تقطعه قطعك»، هذه هي الفرضية التي يعمل عليها البعض، وهي فرضية قائم تطبيقها على روح المبادرة، كما ذكرت.
ومع ما ذكر كله من وجهتي النظر القائمة للتعامل مع الزمن، في شأن الاختلاف والتوافق يظل التخطيط هو الذي يعوّل عليه في التخفيف من تأثير الاختلاف، أن سلمنا بأن التوافق جانب إيجابي ليس من جانبه ضرر، حيث إننا كثيرا من لا نهتم بهذا الجانب، ونرى فيه الكثير من المتاعب، أو التعقيد، ولذلك فالذين رجحوا كفة التخطيط، ولو على المستوى الفردي، اصبح عندهم المنجز متحققا الى حد بعيد، ووصلت حالة التوافق في الإنجاز الى أعلى مستوى فيه، بينما الآخرون الذين يهملون جانب التخطيط لاستغلال الزمن، كان الزمن لهم بالمرصاد، حيث يسرق منهم لحظات العمر، وحقيقة الجهد المبذول، فيأتون مع نهاية المطاف وكأن شيئا لم يكن، يلعنون الزمن، ويقسون على انفسهم في تقييم ما أنجزوه، وكانت الفرصة متاحة أمامهم لأن يوظفوا الزمن في تحقيق ما يسعون إليه.
مجموعة من المعاني الإنسانية يستحوذ عليها الزمن في تريثه، وتسرعه، في ليله ونهاره، في سلمه وحربه، في صباه وعجزه، وإذا سلمنا أن الإنسان عبارة من زمن معين يتلبسه، فإن الإنسان حينها يعيش في صراع البقاء أو التماهي، وبالتالي فعليه أن يسخر الزمن لكي يحقق ما يصبو إليه، وإذا اغفل الزمن، أو أركنه جانبا، تضاعفت على حياته الخسائر، وانقضى العمر، وخرج «من المولد بلا حمص» كما جاء في أحد الأمثال، ولذلك ينقضي العام تلو العام، وتتراكم السنون على أعمارنا، فهذا قضى مائة عام، وآخر خمسين، وهناك من أقضى وأكثر، وآخرين قضوا أقل، وهكذا تستمر ديمومة الزمن في طوله وقصره، ويدفع مأزق هذا الطول، وهذا القصر هو الإنسان نفسه، لأنه محاسب على كل دقيقة يعيشها، «وعن عمره فيما أفناه»، وما بين الطول والقصر يعيش الإنسان إرهاصات الأيام فأما سعيد يرى في الأيام حياته التي يريد، ويتمنى، وأما حزين يرى حياته ظلاما سرمديا يعجزه البقاء، ويرى في الفناء راحته ومنتهاه، اعمروا الزمن ولا تعبروه، استلطفوا لحظاته، واقتنصوها، فإن ما يذهب لن يعود، ولحظات الزمن نادرة لا تتكرر، فاغتنموا لحظة تماسكم بها، فلربما يكتب لكم حينها عمر جديد.