هلال اللواتيا -
وهنا نحن مع حلقة جديدة من حلقات أسلوب المعاملة الإلهية مع العباد، ومع نموذج آخر من النماذج الإلهية النورانية التي تشع بأنوار الخلق الإلهي، مؤكدين على أن المنهج الرحماني ليس مختصاً بنبي دون الآخر، بل هو منهج وجودي، تأسست عليه جميع التعاملات الإلهية، وكل من يمشي على صراطه من الأنبياء والرسل والأوصياء، فهؤلاء كفريق عمل واحد، لا يخالف فيه الرسول المرسل أبداً، وكيف يخالفه وهو من يمثله على وجه الأرض، فهو الذي يعرف بحسب التعبير القرآني بـ(خليفة الله).
قال تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ).
فلاحظ الآية المباركة تبين بأن النبي نوح (عليه السلام) لم يستعمل السلاح ولا الترهيب لدعوة قومه، بل لما أن آيسه قومه التجأ إلى ربه مباشرة، وشكا إليه حاله مع قومه، «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ»، فما كان من السماء سوى أن تلبي دعوته وشكايته.
وقال تعالى: «وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ».
وتبين آيات أخرى في سورة أخرى كيفية تعامل النبي نوح (عليه السلام) مع قومه برغم ما كان عليه قومه من العناد الشديد، والغلظة، والترهيب، والجلافة، وعدم التورع حتى عن الألفاظ غير الطيبة.
قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ، قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ).
فلاحظ الآية المباركة التي تبين مجموعة من الأمور منها:
أولاً: أن النبي نوح (عليه السلام) كان من أهم الركائز الرحمانية ومظاهرها التي اعتمدها في حواره هو: الحوار الجميل، الحوار الذي يرتكز على البرهان العقلي، وعلى الدليل الوجداني، وعلى الكلام الطيب.
ثانياً: إن النبي نوح عليه السلام كان برغم السلوك الجميل الذي كان يتحلى به في حواره الرسالي؛ كان قومه يواجهه بالعنف والتشنج الحاد، وبالكلام الجارح الشديد، وكانت الاتهامات هي السبيل في مواجهة النبي نوح، عليه السلام.
ثالثاً: لا نجد في قصة النبي نوح عليه السلام أنه استعمل العنف مع قومه رغم أنه عاش فيهم وهو يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى 950 سنة، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).
رابعاً: إن الفرد المنتمي إلى الله تبارك وتعالى لا يخرج عن المنهج الإلهي في دعوته، بل يلتزم به حرفياً، لأن أهم داع يدعوه إلى أن سلك مثل هذا المنهج هو: «هو»، وليس «أنا»، ما يدعونا للتأمل بأن الخلافات التي تحدث بين البشر لا تخلو من سريان الـ(أنا) في البين، فعليه ينبغي مراقبة النفس من الإفراط أو التفريط.