«الزعتري» من بديل مؤقت إلى مكان ودود قابل للحب -
الزعتري «شمال الأردن» عاصم الشيدي -
كان حمزة يتمرجح فوق أرجوحة بسيطة جدا مصنوعة من حبال عادية، يحاول جاهدا أن تصل به الأرجوحة إلى أعلى مستوى بعد أن يساعده ابن عمه سعيد في دفعها ليحصل على نشوة طفولية لا مثيل لها. عندما تصل الأرجوحة إلى أعلى قمة لها يجتهد حمزة ليرى أبعد نقطة يصل إليها نظره في المخيم.
هل كان حمزة يحاول أن يرى رفاق حارته ومدرسته المتناثرين على مربعات المخيم أم يرى وطنه الذي لا يبعد إلا 12 كيلومترا عن وطنه البديل الذي اختزل في مخيم (للاجئين)، وحلم عودة بات معقدا جدا.
في هذا السؤال تكمن مأساة حمزة وآلاف غيره من اللاجئين السوريين في مخيم الزعتري بعد قرابة سنتين ونصف على افتتاحه. حمزة طفل في الثامنة من عمره إلا أن حياة المخيمات صنعت منه رجلا في جسم طفل.. سمرة الرجولة أعطته قدرة على فعل أشياء كثيرة لا تليق بطفولته التي لم يعد لها دليل إلا براءة في عينيه البنيتين. عندما اقتربت منه في ساحة الألعاب شرق المخيم وبالقرب من المخيم (العماني) سارع المشرف على الساحة ليحول بيني وبينه وليمنعني من التصوير.. لم يهتم كثيرا حينما عرف أنني صحفي، ولدي إذن بالتجول والتصوير في المخيم. وحاول إجراء أكثر من مكالمة هاتفية للمسؤولين في المخيم بهدف أخذ الموافقة للتصوير في هذا المكان بالتحديد، لكنّ ضيق الوقت جعلني أشكره على محاولاته وأقول له (احترم خيارك في عدم التصوير.. وحسبي دقائق حديث مع الأطفال) العلاقة بين لاجئ الزعتري وبين الصحفيين سيئة جدا، ووصلت في الكثير من الأوقات إلى طريق مسدود بعد تقرير بثته فضائية إسرائيلية (صور)، وقيل فبرك، في المخيم عن زواج (المتعة).. وأثار ضجة كبيرة. وكان فريق التصوير قد دخل إلى المخيم بوثائق مزورة. وقبل دقائق من دخولي إلى الزعتري منع فريق جريدة نيويورك تايمز من الدخول بسبب عدم اكتمال التصاريح المطلوبة.
لا يحتاج العالم إلى من ينقل له تفاصيل المأساة في مخيمات اللجوء، فكلمة لاجئ وحدها كفيلة باستحضار كل المأساة. ورغم أن ذلك ألحّ عليّ كثيرا في زيارتي الثاني للمخيم إلا أنني كنت أبحث عن إجابة لسؤال قدرت أنه مهم جدا.. بعد ثلاث سنوات من الحياة في الخيام (تأخذ الخيمة في مخيم الزعتري غالبا بعدا رمزيا على اعتبار أن أغلب الخيام تحولت إلى بيوت متنقلة (كرفانات) ولم يعد إلا القلة يقطنون خياما بالمعنى التقليدي) ماذا تغير في نظر اللاجئ السوري لما يجري في وطنه، سوريا، وكيف صارت وتطورت علاقته بالمخيم.. لا يمكن أن ننسى أن الشعب السوري لم يتعود على حياة المخيمات، ولم يُسكن اللاجئين إليه من العرب في خيام، سواء كانوا فلسطينيين أو عراقيين أو لبنانيين، ويصر السوريون دائما على التذكير: (تقاسمنا مع العرب بيوتنا قبل أكلنا وملبسنا). في العام الماضي كانت عام قد مضى على افتتاح (الزعتري)، وكان الأمل أن لا تمضي شهور بسيطة إلا وتنتهي (الثورة) السورية بسقوط النظام.. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، والنظام يحقق اليوم انتصارات سياسية وعسكرية على المعارضة وعلى الجيش الحر الذي مازال يفقد شعبيته ومصداقيته في الدفاع عن قضيته الأساسية. كنت أقرأ وأنا في الطريق إلى المخيم نصا لرسالة لاجئ فلسطيني إلى لاجئ سوري، وكانت قد انتشرت كثيرا في مواقع التواصل الاجتماعي. يقول فيها الفلسطيني للسوري في نص شعري جميل:
(ستكون الخيمة مزعجة في الليلة الأولى.. ثم في السنة الأولى.. بعد ذلك ستصير ودودة كواحد من العائلة، لكن حذار أن تقع في حبها، كما فعلنا.. لا تبتهج إن رأيتهم يقيمون مركزا صحيا أو مدرسة ابتدائية.. هذا خبر غير سار أبدا.. وإياك أن تتورط بمطالبات غبية كبناء بيوت بسيطة بدل الخيام.. ذلك معناه أنك بدأت تتعايش.. وهنا مقتل اللاجئ، وهنا أيضا.. مقبرته.. ولا تدرب أولادك على الصبر.. الصبر حيلة العاجز.. سيبيعك الناس لبعضهم.. تلك هواية السياسيين.. وسيأتيك المتضامنون من كل البلاد، ستصير أنت شعارهم في الانتخابات ويتقربون بك إلى الله.. لا تطلب خيمة أفضل.. فليس ثمة خيمة أفضل من خيمة).
تبدو النصيحة ليست أكثر من نص شعري يشتغل على دغدغة المشاعر من خلال رمزية مكثفة. فالناس هنا اعتادوا فعلا المخيم، وباتت الخيمة (الكرفان) سكنا يشعرون أنه مريح، وأفضل من البقاء تحت رحمة براميل النظام التي تتساقط عليهم من سماوات سوريا. ويمكن أن تعطي جولة سريعة في المخيم فكرة مفادها أن الناس هنا استطاعوا تحويل المخيم من مكان (للجوء) إلى (وطن) وإنْ كان بديلا. فرغم أن القائمين على المخيم يتكفلون بإعاشة جميع سكانه الذين يتراوح عددهم اليوم بين 107 إلى 110 آلاف لاجئ، بحسب حركة الدخول والخروج إلى المخيم، إلا أن المخيم تحول إلى سوق كبير تباع فيها كل ما يخطر على البال. وفي شارع الشانزليزيه الذي يتوسط المخيم الفرنسي يمكن للزائر أن يجد مئات المحلات تبيع كل ما يمكن أن يجده الزائر لسوق الحميدية في وسط دمشق. حتى محلات فساتين الزفاف يمكن أن تجد منها أنواعا مختلفة. ناهيك عن محلات الحلويات والخضروات ومحلات بيع اللحم. سألت مرافقي من إدارة المخيم عن آلية تنظيم هذه المحلات وتحت أي إطار تعمل فرد ببساطة: (كلها غير قانونية وغير مرخصة وبضاعتها مهربة). الغريب أن حتى الكهرباء التي توزع مجانا على الخيام وفق حصص معينة يتم إعادة بيعها في المخيم.. وهناك مصنع كبير لصناعة الطابوق ومواد البناء. وهذا المصنع يشتري بدوره الرمال التي تقطع من أماكن متفرقة من المخيم، وبدأ بعض سكان المخيم في البناء بالمواد الثابتة في إشارة يمكن أن تكون لها رمزية واضحة.
بهذا المعنى يتحول المخيم من مكان لجوء مؤقت إلى ما يمكن أن يعتبر وطنا بديلا. وهو مؤشر خطير فيما لو قرئ المشهد بمصاحبة رسالة الفلسطينيين للسوريين. لكن الأمر لا يخلو من سخرية مرة في الكثير من الأحيان. فمقهى مثل مقهى (باب الحارة) يحيل إلى مسلسل باب الحارة الذي صور كفاح الشعب السوري ضد المحتل الفرنسي دون أن يترك أرضه ووطنه وتمسك بها حتى رمق التحرر.. وهو يحيل إلى اللحمة السورية والفتوة. وفي المقابل يحيل شارع الشانزليزيه أحد أشهر الشوارع في العالم وأكثرها احتفاء بالماركات العالمية إلى سخرية مرة من حال المخيم، الذي مهما توفرت فيه مقومات الحياة إلا أنه يبقى (مخيما) وسكانه (لاجئين)، وتناثر محلات بيع فساتين الأفراح إلى أن هذا الشعب مصر على الحياة والبقاء حتى ولو في وطن بديل (مؤقتا).
لكن هذا الأمر لا يمكن أن يعتبر قاعدة عامة في المخيم، فبعد جولة قصيرة بالسيارة في ربوع المخيم وقفنا بجوار تجمع بشري كبير، اكتشفنا أنه مكان يتجمع فيه الراغبون في العودة إلى (الوطن) الأساسي الذي لم يستطع بعض اللاجئين استيعاب فكرة أن يكون وطنا بديلا موازيا له أبدا. وحسب إحصائيات إدارة المخيم فإن عدد المغادرين من المخيم إلى داخل الأراضي السورية التي لا تبعد أكثر من مرمى حجر يتراوح بين 100 إلى 150 شخصا في اليوم، لكن مقابل عملية الخروج هناك عملية دخول للمخيم، رغم اعتباره شبه مغلق، تتراوح بين 400 إلى 700 فرد في اليوم. وحسب المنظمات الدولية فإن الكثير من خدمات، المخيمات، قد اكتملت في الزعتري. ويضم المخيم اليوم 3 مستشفيات يمكن أن تصنف بلغة المخيمات إلى مستشفيات مرجعية، وخمسة مراكز صحية، و12 مدرسة تستوعب 11 ألف طالب وطالبة موزعين على فترتين صباحية ومسائية.
يتكور رجل طاعن في السن فوق كرسي طويل بلا مسند ظهر في المركز الصحي الشامل التابع لمنظمة عون الأردنية، وإلى جواره يجلس طفل لم يتجاوز السادسة من عمره، ينزل خيط مخاط رفيع من أنفه، لكنه ينحرف باتجاه اليسار فوق منطقة الشارب نتيجة مسحه بظاهر يده اليسرى. وخلف ما يمكن أن يكون حاجز خشبي تتراكم أكثر من عشرين امرأة يرتدين عباءات سوداء وأغلبهن يغطين وجوههن بغشاء أسود. حاولت أن ألتقط بعض الصور لكن رجل الأمن الذي كان حتى ذلك الوقت يرافقني منعني من التصوير بدعوى أن المكان فيه نساء وأن صورة واحدة يمكن أن تخلق مشكلة كبرى في المخيم وعاد وكرر لي (علاقة الناس بالصحفيين هنا ليست جيدة كثيرا).
في داخل غرفة مقابلة لمكان الانتظار كان يجلس المشرف على المركز محمد المساعدة الذي بدا متحفظا كثيرا عن إعطاء إي معلومة طبية وخاصة عن خارطة الأمراض المعدية في المخيم، مكتفيا بالقول أن المركز يكافح مرض الجرب المنتشر في المخيم وكذلك مشكلة القمل. وتحدث المساعدة عن مشكلة الصرف الصحي في المخيم الذي يقع فوق حوض مياه جوفية، وأي تسرب لمياه المجاري إلى الحوض يمكن أن تنذر بكارثة في محافظة المفرق. سألت إن كان تم رصد أي حالة لمرض الملاريا في المخيم.. صمت ثم قال: لو رصدت حالة واحدة يمكن أن تؤدي إلى إغلاق المخيم كاملا.
التحفظ نفسه كان مع دكتور الطب النفسي في العيادة النفسية التابعة للهيئة الطبية الدولية. رغم أنها من أنشط العيادات نتيجة الحالات النفسية التي يعيشها سكان المخيم الذين يروعهم سماع القصف في محافظة درعا.
في قلب المخيم توجد محكمة شرعية كان هدفها الأول توثيق حالات الزواج داخل المخيم أو ما كان حدث قبلها. وأغلب اللاجئين في مخيم الزعتري هم من أبناء محافظة درعا أحد أكثر محافظات سوريا محافظة. في الناصية اليسرى بعد شارع الشانزليزيه تقع خيمة أبي رائد أحد كبار المسؤولين في المخيم من اللاجئين أنفسهم وهو شيخ عشيرته في درعا. أمام بيته تجمع بعض الأطفال الصغار ينادون (صورني يا عمو صورني يا عمو). بعد لحظات انضم إلى مجلس/خيمة أبي رائد أبو عبدالناصر وهو أحد شيوخ درعا أيضا ويقرض الشعر. ويجمع الشيخان أن الحرب السورية ليست حربا ضد النظام، بل هي حرب بين السنة والشيعة!!. قلت لهم لكنكم كنتم تعيشون لعقود طويلة دون أن تكون بينكم حتى مجرد حساسية؟ رمقني أبو عبدالناصر بعينه ثم قال: لا وفاق بيننا وبين النصيرية!!.
هذا الخطاب هو خطاب يكاد يكون خطابا جمعيا في المخيم. صار الخصم بالنسبة للمشردين أكبر من كونه نظام، إنه طائفة بأكملها. أعادت توليد التاريخ القديم وقراءة أحداثه بمنظور (لاجئ) يعيش في خيمة تحرقه صيفا وشتاء ولا يرى أن ثمة أفقا قادما في الطريق.
قد يسقط النظام وقد يتغير، وقد تعود سوريا ولو بخارطة جديدة وفق تقسيم الشرق الأوسط الجديد ولكن كيف يمكن أن تتغير هذه القناعات التي نقشت في النفوس بمرارة وحسرة كبيرة.