بدر العبري -
يشكل هذا الجزء (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) منعطفًا حضاريًا وتربويًا مهمًا، يظهر مليًا في مدرسة الصّيام الرفيعة.
ونجد أنّ الله سبحانه وتعالى أشار إلى هذا في عقد آيات الصّيام؛ لأنّ مدرسة رمضان كما أسلفنا مدرسة التّغيير، وإذا كانت كذلك كانت مفتوحة للجميع، فليس لأحد منزلة فوق آخر، والنّاس سواسية أمام الخالق العظيم.
فالإنسان بطبيعته البشرية يتأثر سلبًا وإيجابًا لما حوله، وكما يكون التأثير إيجابيًا، أحيانًا وفي كثير من المرات يكون سلبيًا، فيكون رهين أخطاء ذاتية ومجتمعية، من هنا يأتي رمضان ليكون مرحلة التغيير، والعودة إلى التصحيح، ليكون الإنسان مؤثرًا إيجابيًا في المجتمع، لا أن يكون متأثرًا فقط.
ونجد الرمز الإلهي أمام بُعْدِ عبادِه عنه إلا أنّه يفتح لهم المجال مبينًا قربه منهم سبحانه، وهذا منهج حضاري رفيع، ولله المثل الأعلى، فالله تعالى على مكانته وجلالته إلا أنّه مهما ابتعد العبادُ عنه فهو يتقرب منهم ليتقربوا منه سبحانه وتعالى.
وفي هذا مثال رائع للإنسان مهم علا شأنه، وارتفع بنيانه، نسبا أو منصبا أو مالا فعليه أن يتقرب ممن دونه، ولو أخطأوا في حقه، ولا يتعدى أبدا، وإن صفح فالصفح خير.
كما أنّه يشكل مثلا رائعا لمن يسوس الناس، من حكام فمن دونه، ومن مؤسسات ودنية وخدمية، فيتعاملون مع المخطئ بالعدل، ويتقربون منه للإصلاح والصلاح، ليغير حاله وسلوكه.
وينطبق هذاالأمر بطبيعة الحال لمن في السجون بسبب أخطاء وقع فيها، فيجد مجتمعا قريبا منه يسعى لأخذه وفتح المجال له مرة أخرى، ليعود إنسانا صالحا مصلحا، فتتغير سلوكه، وتتحسن أحواله، خلاف لو أنّ المجتمع رفضه، فيرجع ناقما له، ساخطا على أمته، فيزداد طغيانا، وفي الأرض فسادا، والله المستعان.
نجد بعض الروايات تعزو سبب نزول هذه الآية إلى يهود المدينة أو بعض الصّحابة كما في رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال يهود أهل المدينة: يا محمد، كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أنّ بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام؟ وإن غلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية. وقال الضحاك: سأل بعض الصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب).
أمّا الرواية الأولى فيشم فيها بعض التلاعب الإسرائيلي، كقولهم: وأنت تزعم أنّ بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام؟ وإن غلظ كل سماء مثل ذلك؟، فهذه نشأت فيما يبدو عندما ظهر التلاعب، ودخول المرويات الإسرائيلية، وإضافتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، خاصة وإنّها من طريق الكلبي!
أمّا الرّواية الثّانية فتتفق مع القوانين القرآنية، كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
ونلاحظ الرّواية فسرت القرب الإلهي بالبعد المكاني، فهل هو قريب مكانا أم بعيد، فجاء التفسير أنّه قريب، مما يتوهم المراد الإثبات المكاني، ولست هنا بغرض الحديث عن هذه المسألة التي لا فائدة منها للمؤمن، والجدال حولها مضيعة للوقت، ولا تفيد الأمة إلا تشتتا، فالكون مخلوق من مخلوقاته سبحانه، وهو لا يساوي شيئا أمام عظمته وجلالته، (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) .
فالكون وما فيه لا يساوي شيئا أمام عظمة الله [كرسيه]، وعلمه واسع محيط، وفي النهاية عليٌّ بجلالته وعلمه، عظيم بذاته، وهذا يسع الإيمان به، بدلاً من الصراع حول ماهية لا تدرك، وفلسفة لا تحاط.
والقرب في الآية المراد منها قرب الرحمة والعظمة والحفظ من جهة، وقرب القبول من جهة أخرى، فمع عظم بعد الإنسان عن خالقه سبحانه وتعالى إلا أنّ الله جلّ جلاله يثبت قربه من عبده، فهو الرحيم الحافظ، وفي الوقت ذاته يقبل توبة بعده إذا جاءه تائبًا متضرعًا، ونحو هذا قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).
نرى مفتتح الآية: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي)، إمّا إخبار عن أسئلة وجهت للنبي عليه الصلاة والسلام، كما يظهر من الروايتين السابقتين، أو إخبار أريد به الإنشاء وهذا تقوية للخطاب، وبيان لعظمة هذا الشأن.
وإذا في قوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) ظرف لما يستقبل من الزمان، وهذا دليل على توارد هذا السؤال دون تحديد لزمن، وفي الوقت نفسه تأكيد لعظم هذا القرب الإلهي في كل زمان إلى يوم الدين.
ونلاحظ استخدم الله تعالى لفظة العباد، وأضافهم إليه، فلم يقل: وَإِذَا سَأَلَكَ العباد أو الناس أو قومك أو المؤمنون عني؛ لأنّ المقام مقام قرب، والعبودية أخص ألفاظ القرب، وإضافتهم إلى الله تشريف لحال هذا العبد أمام الخالق العظيم، ودليل على عظم هذه الجائزة لمن اقترب من الرب الرحيم.
ثمّ إنّه سبحانه وتعالى استخدم في جواب الشرط الجملة الإسمية، لذا اقترنت بالفاء وجوبا فقال: فَإِنِّي قَرِيبٌ، والجملة الإسمية تفيد أمرين: التوكيد والاستمرار، فهنا توكيد على قرب الله سبحانه وتعالى في كلّ زمان ومكان، والقرب كما أسلفنا هو قرب رحمة وجلال ومغفرة وتوبة وأوبة منه جلّ جلاله.
والأمر الثّاني الاستمرارية؛ لأنّ الجملة الاسمية ليست متعلقة لا بزمان ولا مكان، فهي أشبه بالقاعدة الدائمة، ولذا أكدّ الله الجملة بأن التوكيد، وجعله ملاصقا للضمير المتصل العائد إلى الذات سبحانه، لبيان عظمة هذا الشأن واستمراريته رحمة من الله وفضل، وللحديث بقية.