مليكة السيابية -
إن لليل آفاقا وأعماقًا لا يعلمها إلا القليل من البشر من ذوي البصيرة، ولذلك قال الله عز وجل « إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب».
فأولو الألباب الذين يستقرون آيات الله في الآفاق، ويرتلونها في القرآن يدركون الفرق البين في اختلاف الوعاء الزمني الليلي عن الوعاء الزمني النهاري…
وانظر لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم لحظة الغروب، يتأمل جمال السماء لحظة إسدال الليل ستائره.. فيقول: «اللَّهُمَّ هَذَا إِقْبَالُ لَيْلِكَ وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ، فَاغْفِرْ لِي»…
ولحظات الانتقال بين الليل والنهار هي لحظات عظيمة.. «وجعلنا الليل والنهار آيتين».. ولعظمتهما أقسم الله بهما.. «والليل إذا عسعس* والصبح إذا تنفس»..
والليل إذا عسعس
وحين تتأمل كلمة عسعس يقول فيها المختصون بالجانب العلمي أنها تعني حركة جيبية اهتزازية، كالزلزال «إذا زلزلت الأرض زلزالها» وهي مؤلفة من مركبين لغويين..
ومثلها «فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها»..
ومثلها صرصر في قوله تعالى « بريح صرصر عاتية»
ومثلها قول امرأة العزيز «الآن حصحص الحق»
ومثلها فعل هاجر حين كانت تزمُّ الماء وتقول «زمزم.. زمزم»..
وهنا نجد أنَّ لحظة عسعسة الليل وتنفس الصبح لحظة عظيمة، ينبغي للمؤمن أن يشعر فيها بخروجه من وعاء زمني إلى وعاء زمني مختلف في سيره إلى الله..
والصبح إذا تنفس
وتنفس الصبح هو دليل انبعاث الحياة والحركة للمعاش، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «بورك لأمتي في بكورهم»، ومن عجيب رحمة الله بعين ابن آدم هي نعمة إيلاج النهار في الليل، حتى لا يفقد بصره..
ففي النهار يقول المختصون: أن الليل لا يخرج من النهار 100%، فحين تتداخل أمواج الضوء السبعة مع أطياف الليل يبقى شيء من الليل في النهار وهو سبب تكون الظل، بينما حين يذهب النهار ويأتي الليل فهو يخرج بنسبة 100% .. «والليل نسلخ منه النهار».
إحاطة رعاية
«قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون»، ويحيطنا المولى بالكلاءة وهي منتهى الرعاية والعناية في الليل والنهار، ولكن يختص الليل بخاصية السكون «فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ».
وهنا تجد من لطائف المولى ما ذكره د. علي أبو الحسن في حديثه عن هذه الآية، فحين تتجلى عظمة الله في فلق الصبح وتنفسه، وجعل الليل سكنًا بعد انشغال للعقل في الاشتغال بمعاش النهار، تأتي العناية «قل من يكلؤكم» التي أصلها الرحمة، وتتطالبنا هذه الحركة المتواصلة بين الليل والنهار باستقرائهما والعمل فيهما بما يرضي المولى.. «وجعلنا الليل والنهار آيتين»..
أحوال أولو الألباب
إن أولي الألباب الذين أحسنوا قراءة آية الليل والنهار لهم تعاملٌ خاص مع الليل.. فهم يبدأونه بتفقد أنفسهم وهناك علاقة بين الليل والوجدان، فتجد القلب ينشطُ ليلاً والعقل ينشط نهارًا، «وجاءوا أباهم عشاء يبكون» فاقترن البكاء بفترة العشاء..
فوقت الليل فيه من السكون ما يجعل العبد يتفقد أحواله ويراجع نفسه، كما أن القلب قد يتحمل مكابدة آلام المرض نهارًا، ويتهاوى أمام المرض ليلًا..
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
فالقلب أكثر ما يكون رقة وتأملاً في الليل، وأولو الألباب يدركون ذلك، فتراهم يدخلون مع دخول الليل في تكييف شعوري مختلف ويبدأون بتفقد أنفسهم فيستغفرون..
قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله – عز وجل – يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها».
وسيدنا عليه الصلاة والسلام كان يتأمل الغروب فيقول: «اللَّهُمَّ هَذَا إِقْبَالُ لَيْلِكَ وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ، فَاغْفِرْ لِي»، ومن خلفه أتباعه كانوا يتفقدون أنفسهم وقت الغروب فيذكرون الله ويستغفرونه لأنهم يدركون إن ساعة التأمل تلك هي متكأهم للقيام ومناجاة الله في جوف الليل..
وهذا يقودنا إلى خطوات عملية حين يأتي الليل:
1- إدراك أن الليل محطة استدراك لما لم يتم استدراكه في النهار، ومحطة تبديل السيئة إلى حسنة, «إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».
2- الاهتمام بأذكار الصباح والمساء، واستقراء هاتين الآيتين والعمل في وعائهما الزمني بما يرضي الله عز وجل..3- امتلاك النية الصادقة والعزيمة لقيام الليل، واليقين بأنها عزُّه وسر استغنائه عن الخلق باللجوء للخالق، وأنها رافد إيمانه وصموده أمام الشهوات.
4- البدء بالصلاة قبل النوم إلى أن يتمكن المرء من التهجد أخر الليل، والتذكر بأن الله قرنه بالمقام المحمود، «ومن الليل فتهجَّد به نافلةً لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً»..
5- استحضر في قلبك كل ليلة أعظم نعم الله عليك فهذا يولد الحب الذي يدفعك للقيام للمناجاة.
6- حافظ على أذكار النوم .
7- قم وتوضأ وضوءًا يطهر قلبك ويكسيك بنور الإيمان.
8- استمتع بقراءة سير الصالحين وأحوالهم في قيام الليل، فكان أحدهم يقول: ما مرت بي ليلة وتنتهي وأنا لم أقضي نهمتي منها.