شرق وغرب واقتصاد

مصباح قطب -

mesbahkotb@gmail.com -

كلنا يعرف القول المشهور للشاعر الانجليزي “كيبلنج “ والذي يرى ان “ الشرق شرق والغرب غرب ولا يمكن ان يلتقيا”، وهناك دلائل جادة لا حصر لها توضح ان تلك الروح الاستعلائية سادت اوروبا طوال الفترة من بداية عصر النهضة “ الرينيسانس “وربما حتى هذه اللحظة بل الاكيد حتى هذه اللحظة، ومع ذلك فقد قطعت القوى الانسانية والسياسية المخلصة لفكرة المشترك العام بين البشر شوطا كبيرا لمقاومة ذلك وقدمت تضحيات كثيرة لتغيير هذه العقلية وهذا التوجه ما اسفر عن درجات من التقارب الدولي في مجالات مختلفة في هذا العصر او ذاك و مازالت تلك القوى تسعى لمواجهة تيار تقسيم العالم الي فسطاطين اولهما فسطاط الحضارة الغربية وثانيهما الانحطاط فيما ليس غربيا، وقد بلغت فكرة الاستقطاب الدولي ذروة خطورتها في وقت الصدام بين ما كان يسمي بالمعسكر الشرقي (الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه) والمعسكر الغربي وأدى الى سباق تسلح مخيف استنفد موارد لو كان توجه نصفها لاخراج البشرية من الفقر لكفى، ولحق بذلك صراعات استخباراتية وحروب بالوكالة ادت الى اعاقات بشعة للتنمية في كثير من مناطق العالم واعتقد البعض لوقت من الاوقات ان اختفاء الاتحاد السوفيتي وصعود الصين بالتوازي من شأنهما ان يزيلا قدرا كبيرا من الاحتقان الدولي وان ينفتح الطريق الى تعاون بناء في مجال التجارة والاستثمار ونقل الخبرات والتصدي للاخطار المشتركة وعلى رأسها الارهاب وتدهور البيئة لكن يا خسارة !، واذكر أنه ظهر فى تلك الفترة تعبير جديد في الخطاب السياسي العالمي يقول: (ان الايكولوجي سيحل محل الايدلوجي) اي ان احتياج الانسانية للتصدي للتدهور البيئي والاحتباس الحراري ومشاكل الصوية الزجاجية والتصحر ونقص المياة والامطار الحمضية وغير ذلك من مشاكل هائلة كل ذلك سيدفع الدول الي التعاون معا للتصدي لها بدلا من الصراع الذي يفاقم هذه المشاكل وغير هذه المشاكل.

غير ان من الواضح الان اننا كنا حسني النية فالمشاكل المشار اليها على وضوح خطورتها البالغة على الكرة الارضية باجمعها لم تحل بين كثير من القوى الغربية الحاكمة والمصالح التي تدافع عنها من ان تخرج علينا بالنظرية الكارثية المسماه “صدام الحضارات “ والتي اسس لها الرجل القريب من دوائر الامن الامريكي “صمويل هنتجتون “، وهي نظرية تفضي واقعيا الي ان يشتبك كل اتباع دين مع اتباع دين اخر وكل اتباع مذهب في دين مع اتباع مذهب اخر وكل تيار داخل المذهب نفسه مع تيار اخر وتفضي عمليا ايضا الى ان تصطدم كل جماعة عرقية مع الجماعة الاخرى وكل تكوين اثني او ثقافي مع التكوين الاخر وهكذا بحيث لا يعود على الارض خارج الدول التي اعتبرتها النظرية محصنة من هذا الصراع الا وهي الدول الغربية انسان واحد غير مشتبك مع جاره او مواطنيه.

لم تكتف القوى التي اطلقت هذه النظرية بكونها مجرد نظرية وانما عملت بكل اشكال التاليب والتجسس وصناعة الموت وتشويه الافكار لجعل هذه النظرية واقعا.

من المؤكد ان من التعسف الشديد النظر الي الغرب ككتلة واحدة او الى دولة فيه ككتلة واحدة فالمجتمعات الغربية تحتشد بطاقات انسانية ضخمة لعبت و مازالت تلعب مع القوى المحبة للسلام دورا كبيرا في مجال التصدي لهذا التفتيت المدمر للانسانية وللقيم وللدول.

هناك حنين يجتاح الانسانية الان كما نرى الى نوع من الخلاص من هذه الاجواء المسمومه حتى تستعيد الشعوب والدول القدرة مرة اخرى على تعميق المشترك وتغليب المصالح والمنافع على ماعداها من امور ولذلك يقال الان فتش عن الهند او فتش عن مصر او فتش عن روسيا او فتش عن تلك المنطقة او الاخرى.

كمفتاح للحل.

فتش عما يمكن ان يبرز على حدة او مجتمعا لاعادة السلام والامان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الي العالم.

في هذا السياق يمكن قراءة التطورات التي برزت علي صعيد سعى دول “البريكس “ (روسيا- الهند- الصين- البرازيل – جنوب افريقيا) الى بناء نظام نقدي جديد يحد من سطوة ونفوذ النظام الجائر لتسوية المدفوعات والاقراض القائم حاليا والمعتمد بطريقة شبة كلية علي الدولار الامريكي.نعلم انه تم الاعلان منذ ايام عن اقامة بنك تنمية تابع لهذه المجموعة برأس مال مئة مليار دولار وممكن ان يزيد الي مائتي مليار دولار مصحوبا بأفكار جديدة لتسوية المدفوعات والمبادلات بين دول هذا التجمع وبعضها البعض كما نعلم ان دول “البريكس “ فتحت ذراعيها لانضمام اخرين الي هذا المسار حتى ولو لم ينضموا الى تجمع “البريكس” نفسه.

على هذا الطريق ايضا اي طريق الخلاص من مسببات العنف والتطرف والاستعلاء من القوى التي سادت العالم لقرون يمكننا ان نقرأ التوجهات الحالية في المنطقة العربية لرد الاعتبار لفكرة العروبة وازالة التناقض بينها وبين الاسلام، وايضا بناء قدرة داخلية على التعاون الاقتصادي والمالي والاستثماري البناء بمعزل عن الضغوط والتوجهات الاوروبية والامريكية ونشير في هذا الصدد الى جهود كل من مصر والسعودية والامارات والكويت وسلطنة عمان والاردن والجزائر في تفعيل هذا الطريق والى المساعدات العربية السخية التي تم تقديمها الى مصر لانقاذها من ربقة الخيار المدمر بين الخضوع لمخططات تسليم زمام السلطة في العالم العربي الي تيار سياسي معين يؤومن بالعنف وايضا حليف لمشروع اعادة تقسيم المنطقة وبين تدمير هذه الدول باستخدام جماعات عنف وحشية تمت تربيتها في حضانات اجهزة مخابرات الدول الغربية.

وفي نفس السياق ايضا يمكن قراءة الزيارة التي قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الي روسيا مؤخرا والتي بدت ظاهريا وكأنها زيارة (تجارة سلاح) فقط.لقد اعطى تجهيز معرض عسكري اولي في مطار الوصول ليراه الرئيس السيسي فور وصوله ذلك الانطباع كما عزز من هذا الانطباع ايضا ان الولايات المتحدة سحبت ومنعت طيارات الاباتشي عن مصر وهي الطائرات التي تحتاجها البلاد بشدة لمكافحة الارهاب خاصة في منطقة سيناء وعلى حدود مصر الغربية وبالتالي تصور الكافة ان مصر ستلجأ الى روسيا لتعويض ذلك.

لكن في تقديري ان جوهر الزيارة هو اقتصادي بالكامل ذلك لاننا لاحظنا ان هناك ما يشبه الحصار الاوروبي والامريكي الاقتصادي غير المعلن على مصر من بعد 30 يونيو 2013 حتى ان العديد من الشركات الغربية العاملة في مصر لا تريد ان تبعث بأي اشارة ايجابية للاخرين عن السوق المصري رغم المكاسب الكبيرة التي تحققها كما ان شركات البترول الاوربية والامريكية ابطات من اعمالها بسبب موضوعي نعم وهو عدم حصولها على مستحقاتها لكن اللافت انها كان لها مستحقات كبيرة في زمن الرئيس السابق حسني مبارك لكنها كانت تعمل بجدية قياسا الى الان، وقد لاحظنا ايضا ان صناديق الاستثمار الاجنبية احجمت عن شراء اذون وسندات الخزانة المصرية على الرغم من ان عائدها مربح للغاية اذ يبلغ نحو 14.5% في الوقت الذي لا تزيد الفائدة على الدولار في بلادها عن 1% وعلى الرغم ايضا من تاريخ مصر المشرف في سداد التزاماتها الخارجية بحيث لا يمكن لاي مستثمر اجنبي ان يدعي ان لديه مخاطر ضخمة اذا استثمر في مصر فى مجال توقف الدوله المصرية عن تحويل امواله حين يريد الخروج من السوق المصري.

صحيح ان هناك مشاكل امنية وبيروقراطية وقانونية مفزعة في مصر لكن الذين استثمروا في السوق المصري اقاموا مشاريعهم وربحوا في نفس تلك الاجواء ولو كانت النوايا سليمة لساهموا مع رجال الاعمال المصريين في دفع الحكومة وتشجيعها لتطوير اللوائح والقوانين والنظم.

لاحظنا ايضا احجام من بيوت المال العالمية ولو نسبية عن ابرام تعاملات احيانا او تمويل عمليات للحكومة او بعض الجهات العامة في مصر وبلغ الامر حتي درجة العزوف عن تقديم ضمانه بشأن استئجار مركب تغييز الغاز المسال بما يساعد على سرعة تفريغ ناقلات الغاز الى مصر ويقلل تكلفة وقوفها في عرض البحر ليتم تفريغها جزئيا.

والمشاهد كذلك ان لدى رئيس البلاد الجديد خططا ضخمة لاقامة مشاريع تنموية عملاقة ومدروسة منها مشروعا حفر قناة السويس الجديدة وتنمية منطقة قناة السويس وكل ذلك يحتاج الى تمويل ضخم غير متوفر محليا ولابد من استثمارات خارجية لذلك يمكن الجزم بان زيارة السيسي لروسيا تهدف الى فك هذا الحصار الاقتصادي وفتح منافذ تبادل جديدة تسمح للبلاد بتحقيق امالها واضيف الى ذلك ان لدى مصر رغبة حقيقية في تغيير النظم الجائرة للاحتكار المالي والانترنيتي القائمة حاليا ولا يمكن لذلك ان يتم الا بالتعاون مع دول مثل روسيا والصين والهند والبرازيل.

يبقى اخيرا ان تبعية جانب من القرار المصري للقوى الغربية كانت قد بدأت من علاقات التعاون العسكري والتسليحي مع الولايات المتحدة الامريكية وبالتالي فربما اراد الرئيس السيسي ان يبعث باشارة مفادها ان الحصول على اسلحة من روسيا ليس هدفا في حد ذاته بقدر ما هو اشارة الى ان مصر مصممه على استقلالية قرارها.

ومن المؤكد ان رئيس مصر بل والمصريين اصبحوا يرفضون تماما لعبة الاستقطاب او الارتماء في احضان هذا بديلا عن ذاك ويدركون ان مصالح بلادهم ومصالح البشرية ستكون في وضع افضل حين تكون هناك علاقات صحيحة تقوم على الندية والتكافؤ بين مصر والولايات المتحدة ودول اوروبا وبين كل دول العالم وتلك الدول فهل تتحقق آمال الطامحين الى نظام سياسي ونقدي واقتصادي عالمي جديد منصف وغير جائر؟ نأمل ذلك.