هوامش… ومتون: شعراء الملايين!

عبدالرزّاق الربيعي -

قديما كان يوصف الشاعر الذي يعيش في حالة عوز، وفقر بأنّه “أدركته حرفة الأدب”، فقد كان الفقر يقترن بالكتابة، لكونها لا تدرّ الّا القليل على أصحابها إلّا من رحم ربي، وألقى في طريقه عطيّة من ممدوح كريم!


وهذه حالات استثنائيّة لا يقاس عليها، وظلّت “حرفة الأدب” تقترن بالبؤس، والشقاء الذي لم يفلت منه حتى الشاعر العبّاسي ابن المعتز، فحين وصلت إليه الخلافة لم تدم معه إلا ليلتين، لذا حين رثاه ابن البسّام قال:


للّه درّك من ميت بمضيعة

ناهيك في العلم والآداب والحسب

ما فيه لولا ولا ليت فتنقصه

وإنـمـا أدركــــته حــــــــرفـة الأدب

ومن الذين أدركتهم “حرفة الأدب”، وذهبت بهم كلّ مذهب، أبوحيان التوحيدي فهو يقف في طليعة الأدباء الذين عانوا من الفقر، والشقاء؛ فأحرق في آخر أيامه كتبه، وكتب في هذا قائلا: “إني جمعت أكثرها للناس، ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمدّ الجاه عندهم، فحرمت ذلك كله.. ولقد اضطررت بينهم، بعد العشرة، والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر، في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة”.

واستمرّت معاناة الأدباء من العوز، والفاقة إلى عصرنا، روى لي الشاعر الكبير عبدالرزّاق عبدالواحد إنّ أوّل تكريم ناله، وكان سيّارة، جعل دموعه تسيل، وحين سئل “هل هي دموع فرح؟” أجاب” لا، لقد تذكّرت بدر شاكر السيّاب”، فسأله الذي كرّمه: وما الذي جاء بالسيّاب المتوفّى بالكويت عام1964 للقصر الجمهوري العراقي ببغداد في مطلع الثمانينات؟ فمسح الشاعر الكبير دموعه، وأجاب: “حين مات السيّاب، لم يكن في جيبه ثمن دواء لمرضه، وفي يوم وصول جثمانه لبيته في البصرة، كان قرار اخلاء البيت الذي تسكنه عائلته قد سبق شهادة الوفاة!!

وأذكر شمران الياسري، الكاتب العراقي المعروف بـ”أبو كاطع”، فحين أراد طباعة رباعيته ذائعة الصيت “رباعية أبو كاطع” في السبعينات، لم يكن يملك ثمن الطباعة، فنشر اعلانا في جريدة “طريق الشعب” أعلن فيه عن نيّته طباعة روايته، ولكي يتمكّن من ذلك، سيضع “كوبونات” في إدارة الصحيفة، وعلى من يريد شراء نسخة منها، يدفع مبلغها المقرّر ويتسلّم “كوبونا”، وبعد الطباعة يسلّم “الكوبون” للصحيفة، ويتسلّم نسخته! وهكذا تمكّن من الخروج من ضائقته، ونشر روايته.

ويصوّر الشاعر الرائد عبدالوهّاب البياتي حال الشعراء بقصيدة كتبها في الستينات:

“فقراء ياوطني نموت

وقطارنا أبدا يفوت”

فمات وحيدا عام 1999م في شقة بدمشق، ليدفن إلى جانب ضريح المتصوّف ابن عربي.

شعراء كثيرون ماتوا، وهم لا يملكون شيئا من حطام الدنيا، لأنّهم لم يجدوا الرعاية، والاهتمام، في مجتمعات تنتشر فيها الأميّة، وتحتلّ نسبة كبيرة في قياسات التعداد السكّاني، ناهيك عن الأميّة الثقافيّة المستشرية في مفاصل كثيرة منها.

جالت برأسي هذه الخواطر، وأنا أشاهد أربعة شعراء، ببرنامج “شاعر المليون”، يتسلّمون مبلغ خمسة ملايين دولار! تعادل حصّة الفائز الأوّل منه خمسة ملايين درهم “1.36 مليون دولار” وهي جائزة توازي من حيث قيمتها المادية جائزة نوبل، التي لا ينالها الّا الذين بلغوا من العمر والتجربة عتيّا!

وضع يدعو للبهجة، والسرور، ويسيل لعاب القصيدة، لمن استطاع إلى الشعر النبطي سبيلا، ويعطي مؤشّرا ايجابيّا للرعاية، والاهتمام، خاصّة أنّ من بين الفائزين الشاعر العماني كامل البطحري الذي نال المركز الثاني بجدارة وكان على قاب قوسين أو أدنى من حمل “بيرق الشعر” لكنّ التصويت وضع البيرق بيد زميله الاماراتي.

ووسط تلك البهجة، تساءلت: هل هذا يعني أن حال الأديب العربي تغيّر، وصارت “حرفة الادب” تكسب الملايين بعد أن كانت لا تخلّف غير النكد، والألم؟

من البديهي، أن تكون الإجابة سلبيّة، فما رأينا في المسابقة التي تنظّمها لجنة إدارة المهرجانات، والبرامج الثقافية، والتراثية بأبوظبي، يعدّ من الحالات الاستثنائيّة، وهي حالات لا يقاس عليها، فالدعم السخيّ، غير خالٍ من الغايات، والأهداف الضمنيّة المستترة خلف “لافتة” الأهداف المعلنة التي في مقدّمتها “إعادة الاهتمام بالشعر النبطي وصون التراث، وكسب أكبر جمهور ممكن كذلك على امتداد الجغرافية التي ينتشر فيها العرب من محبي الشعر” كما تؤكد اللجنة المنظّمة، فما استقرّ في المتن هو مديح، وتمجيد، وما تناثر في الهامش، نصوص وجدانيّة، لجذب الجمهور، وضمان متابعتهم، وكسب أصواتهم، في آليّة غير خالصة لوجه الشعر، بل لوجه القبيلة، والمنطقة، والولاء، وكم كنت أتمنّى لو يتمّ استثمار هذه الملايين، التي يأتي بعضها من الاتصالات، في مشاريع ثقافيّة تنمويّة تخدم الحراك الثقافي الخليجي، والعربي بشكل حقيقي، أو اطلاق مسابقات ذات معايير نقديّة، يضعها متخصّصون، لا تقوم على التصويت، الذي له الكلمة الأخيرة في نهاية المطاف في وضع الشيكات المليونيّة في جيوب خمسة شعراء محظوظين أفلتوا، إلى الأبد، من لعنة “حرفة الأدب”!