مروى محمد إبراهيم -
لو عدنا بالذاكرة إلى الوراء وتحديدا مع تمدد موجة «الربيع العربي» في الشرق الأوسط، فسنجد أن الولايات المتحدة لعبت دورا داعما- لما وصفته آنذاك- بـ»المعارضة المعتدلة» في سوريا. وادعت حينها أنها ترفض دعم المتشددين ولكنها ستعمل على تقوية المعتدلين من خلال إمدادهم بالسلاح والعدة والعتاد، أو باختصار كل ما يلزمهم للقضاء على النظام السوري. ويبدو أن هذه «المعارضة المعتدلة» لم تكن سوى بدعة أمريكية. فقد تم التقاط صور لعناصر من تنظيم داعش وهم يعبرون الحدود التركية – العضو بحلف شمال الأطلنطي «الناتو»- في طريقهم للعراق على متن سيارات يؤكد البعض أنها كانت جزءا من الدعم الأمريكي للمعارضة السورية المعتدلة، ناهيك عما يستخدمونه من سلاح أمريكي.
ويبدو أن واشنطن كانت تهدف من وراء تسليح مثل هذا الجيش إلى تحقيق مكاسب واسعة النطاق في الشرق الأوسط أبعد من الحدود السورية. فمثل هذا الجيش كان سيساعدها في مواجهة وتقليص النفوذ الإيراني في المنطقة، سواء في العراق أو سوريا أو لبنان حيث يدين حزب الله بالولاء لطهران. ويبدو أن الإدارة الأمريكية وجدت في داعش ضالتها بعد رفض الكونجرس القاطع لطلب الرئيس باراك أوباما بالسماح لها بقصف أهداف سورية، و خاصة بعد فشل الإخوان المسلمين الذين دعمتهم واشنطن منذ البدايات الأولى للربيع العربي في فرض سيطرتهم في مصر أو أي دولة أخرى في المنطقة. ولكنه بدلا من تحقيق أهدافه خلق قوة أكثر وحشية سرعان ما خرجت عن سيطرة أمريكا. وبدأت في نشر شرورها في المنطقة من اغتصاب وتعذيب وعمليات قتل جماعية وإبادة طائفية وغيرها من الجرائم الوحشية ضد الإنسانية. وأصبح من الصعب استعادة السيطرة عليه، خاصة في أعقاب استيلاء عناصره على أسلحة ثقيلة من الجيش العراقي كان قد أمده بها الجانب الأمريكي قبل انسحابه من العراق.
ويبدو أن السحر قد انقلب بالفعل على الساحر، فبدلا من أن تقوم داعش بالدور المنوط لها بإدارة حرب بالوكالة ضد سوريا ومن خلفها إيران فقد تحولت إلى تهديد لأمريكا نفسها. فخلال الأسابيع الماضية، خرج العديد من النواب الجمهوريين في الكونجرس الأمريكي إلى وسائل الإعلام ليحذروا من خطورة التنظيم الإرهابي على أمنهم القومي. فقد حذر السيناتور الجمهوري جون ماكين من أن داعش نجحت في تجنيد آلاف الشباب حول العالم في غضون أشهر قليلة، بل وتزداد قوة يوما بعد الآخر، وهدفها الرئيسي كما أكدت مرارا هو تدمير الولايات المتحدة الأمريكية تماما.
أما السيناتور الجمهوري لينزي جراهام عضو لجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ فوصف التنظيم بأنه يمثل « تهديدا مباشرا للأمن الأمريكي»، ووجه رسالة شديدة اللهجة لأوباما قائلا: «سيدي الرئيس كن أمينا في مواجهة التهديدات التي نواجهها، إنهم قادمون إلينا».
وهذه المخاوف ليست من فراغ، فجراح اعتداءات 11 سبتمبر 2001 لم تندمل بعد فها هي الذكرى الـ 13 للاعتداءات الدامية تقترب وتزداد مخاوف أوباما وإدارته بل وحزبه الديمقراطي من تكرار الكارثة مرة أخرى، ولكن على يد داعش هذه المرة والتي تعتبر الامتداد القوي لتنظيم القاعدة.
وبالطبع لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورا قويا في إشعال هذه المخاوف، حيث كشفت عن ضخامة أعداد المتعاطفين مع التنظيم الإرهابي الذين هددوا بالويل والثبور وعظائم الأمور لاوباما وحكومته والشعب الأمريكي كله.
ومع أول قصف لمواقع التنظيم في الشرق الأوسط، ظهر على موقع تويتر هاشتاج #رسالة_من_داعش_لأمريكا، وازدحمت المواقع الإلكترونية برسائل التهديد والتحذير من 11 سبتمبر جديدة، تضمنت صورا لجنود مذبوحين. وهو ما بث الرعب في قلوب الأمريكيين. وبالطبع لا يمكن لاوباما المجازفة، ففشل أجهزة الأمن الأمريكية في رصد أي اعتداء إرهابي محتمل قبل وقوعه، سيكون ضربة قاسمة له هو في غنى عنها في هذه الفترة الحرجة من رئاسته. ولذلك كان لابد من توجيه ضربة استباقية للتنظيم الإرهابي سواء من خلال قصف مواقعه أو تسليح القوات الكردية لمواجهته.
كما أن تقدم قوات داعش باتجاه مدينة أربيل الكردية يشكل تهديدا للقوات الأمريكية المتمركزة هناك، وأي اعتداء أو خسائر تتعرض لها هذه القوات من شأنها وضع اوباما في مأزق، حيث سيضطر حينئذ للتدخل البري لحماية هذه القوات وسيجد نفسه متورطا في حرب ليست في الحسبان. كما أن التدخل البري ليس بهذه السهولة فهو يستدعي موافقة الكونجرس على ذلك، في حين أن الشعب الأمريكي ليس لديه أي استعداد للتورط مرة أخرى في حرب هناك بعد خروج القوات الأمريكية من العراق في 2011. وهو ما أكده الرئيس الأمريكي صراحة، حيث وجه خطابه لكافة الطوائف العراقية مؤكدا لهم «سنكون شركاءكم، لكننا لن نقوم بالمهمة عنكم، ولن نرسل قوات جديدة على الأرض لإنهاء المهمة»، داعيا العراقيين إلى إبداء استعدادهم للاتحاد والتضامن لاستعادة أراضيهم من أيدي المعتدين.
وفي هذا السياق، لا يمكن غض البصر عن المصالح الأمريكية في المنطقة والتي ستتضرر كثيرا من تقدم داعش وتمددها في المنطقة، ناهيك عن أنها تمثل تهديدا خطيرا لأمن وسلامة إسرائيل الحليف الأول والأهم لواشنطن في المنطقة.
ولكن ربما كانت هناك دوافع أخرى وراء اختيار أوباما لهذا التوقيت بالتحديد للتدخل العسكري في المنطقة، لو أخذنا في الاعتبار اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي والمقرر إجراؤها في نهاية نوفمبر المقبل. وكان لا بد من اتخاذ خطوات ملموسة وفعالة لتحسين صورة الحزب الديمقراطي لكسب تعاطف الأمريكيين واجتذاب أكبر قدر ممكن من الأصوات، ربما على أمل فرض الديمقراطيين لسيطرتهم على الكونجرس.
وهو بالتأكيد ما سيخدم الرئيس الأمريكي إلى حد كبير في الفترة المتبقية من ولايته الرئاسية الثانية. كما أنها ستعتبر بمثابة فرصة جديدة له لتحسين صورته بعد سلسلة الإخفاقات الداخلية والخارجية التي عانى منها خلال العامين الماضيين.
لقد أخرجت أمريكا المارد من محبسه وتسعى الآن لحماية نفسها من بطشه. فحقوق الإنسان وحرية العقيدة وما إلى ذلك من الشعارات الرنانة التي تتذرع بها واشنطن لتبرير تدخلها العسكري لمواجهة داعش، ما هي إلا ادعاءات واهية. فيبدو أن القيادة الأمريكية وجدت أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، وهو ما دفعها لضرب العدو في عقر داره قبل أن يبادر بضربها. ولكن هل ستنجح في مهمتها؟.