عاصم عبد الخالق -
assem@ahram.org.eg -
سواء اتفق الفلسطينيون والإسرائيليون على هدنة جديدة أو قرروا معاودة القتال الى أجل غير مسمى، فقد حسمت نتيجة الجولة الأخيرة من المواجهة بينهما، وخلاصتها أن إسرائيل خرجت خاسرة حتى لو لم تربح حماس.
يحدد العسكريون نتيجة أي معركة بحجم ما تحقق من الأهداف الموضوعة سلفا، ووفقا لهذا فإن اسرائيل لم تحقق أهدافها ومن ثم تكون حملتها العسكرية قد أخفقت في إنجاز ما هو مطلوب منها. ولا يمثل قتل نحو ألفي فلسطيني معظمهم من المدنيين أي أنجاز على المستوى العسكري، ولا يشكل بطولة من أي نوع، بل هي جريمة حرب تلحق العار والخزي بمرتكبيها.
في كل المواجهات السابقة بين إسرائيل وحماس في غزة أو حزب الله في لبنان كان كل طرف يسارع بإعلان انتصاره بعد توقف المعارك، ولم يكن خافيا حجم المبالغة في الخطاب الإعلامي للجميع، لذلك سيكون من الأنسب هذه المرة الاستماع الى رأي وتقييم طرف محايد بل ربما يكون أقرب الى إسرائيل ليقدم قراءة واقعية للمشهد على الأرض و”جردة” حساب أولية لنتيجة المواجهة.
هذه المهمة الصعبة تصدى لها خبير بريطاني مرموق في شؤون الأمن والعلوم السياسية هو البروفيسور بول روجرز الأستاذ بقسم دراسات السلام في جامعة برادفورد البريطانية، وله كتب ودراسات ومقالات عدة في العلاقات الدولية وقضايا الأمن.
في تقرير أصدره بعد أربعة أسابيع من بداية العدوان الإسرائيلي وعقب الإعلان عن هدنة لمدة 72 ساعة، يستهل الخبير البريطاني قراءته ورصده للنتيجة بالإشارة الى ثلاثة أحداث وقعت خلال المواجهات يعتبر أنها تشكل مؤشرات ودلالات مهمة وتحدد بالتالي نتيجة ما تلاها من أحداث وما سيترتب عليها مستقبلا من نتائج. والأحداث الثلاثة كما يقول تضع بذور الشك في ادعاء إسرائيل حول تحقيق انتصار أو القدرة على تحقيقه مستقبلا، فقد تغيرت الأرض من تحت أقدامها.
الحادث الأول وقع في اليوم الثاني عشر من القتال أي يوم 20 يوليو الماضي عندما بدأ الاجتياح البري للقطاع. في هذا اليوم وحده فقد لواء جولاني لوحدات الصفوة في الجيش الإسرائيلي 13 جنديا وأصيب 50 آخرون. من بين القتلى كان نائب قائد كتيبة، بينما أصيب قائد اللواء نفسه. في هذا اليوم اكتشفت إسرائيل مدى تطور قدرات حماس، وتلك كانت صدمة للجيش الإسرائيلي (والكلام ما زال للخبير الإنجليزي) وعندها بدأ الجيش الإسرائيلي يدرك أن شبكة أنفاق حماس مشكلة أخطر بكثير مما كان يتوقع.
الحادث الثاني وقع يوم 28 يوليو الماضي أيضا وأكد المعنى السابق حول شبكة الأنفاق وقدرات حماس القتالية المتنامية. في هذا اليوم كان الاجتياح البري قد بلغ ذروته، وأصبح لإسرائيل أعداد كبيرة من الجنود والقوات في القطاع، وكان التركيز كبيرا ومكثفا على عملية اكتشاف وتدمير الأنفاق. ولكن في غمرة هذا الجهد العسكري المكثف أثبتت حماس مجددا أن لها قدرات استثنائية، حيث نجحت وحدة تابعة لها في استخدام نفق لم يكتشفه الجيش الإسرائيلي وعبرت للجهة الأخرى من الحدود وهاجمت وحدة إسرائيلية قتلت منها خمسة جنود.
الحادث الثالث الذي يرصده الأستاذ الإنجليزي كان يوم 30 يوليو الماضي حيث وقعت مأساة الهجوم الإسرائيلي على المدرسة التابعة للأمم المتحدة في مخيم جباليا وقتل فيه 21 شخصا بينهم أطفال. استخدمت إسرائيل في هجومها المدفعية بعيدة المدى، وجر هذا الهجوم عليها انتقادات دولية حادة بعد أن لعبت شبكات التواصل الاجتماعي والصور الملتقطة بكاميرات الهواتف المحمولة دورا مهما في إيصال الحقيقة المفزعة الى العالم.
تضررت إسرائيل كثيرا من هذه الواقعة على المستوى السياسي كما تضررت قبلها وبعدها على المستوى الميداني.
بعد هذه القراءة السريعة فيما جرى يشرح البروفيسور روجرز لماذا يعتبر أن إسرائيل قد خسرت المعركة. هنا يحدد هدفين أساسيين كانت تسعى لتحقيقهما منذ بداية المواجهات، وكلاهما لم يتحقق، وبالتالي فإن حربها تكون خاسرة بالمقاييس العسكرية.
الهدف الأول كان وقف إطلاق الصواريخ، من خلال تدميرها وتدمير منصات إطلاقها. هذا الهدف تؤكد الوقائع أنه لم يتحقق، وكما يقول روجرز هناك ما يشير الى أن حماس والجماعات الفلسطينية الأخرى لم تستخدم سوى نصف ترسانتها من الصواريخ. كما أن هناك تقديرات للجيش الإسرائيلي نفسه تشير الى أنه مازال لدى حماس حتى الان نحو ثلاثة آلاف صاروخ.
الهدف الثاني للهجوم كان اكتشاف وتدمير شبكة الأنفاق التي حفرتها حماس للتسلل الى الأراضي الإسرائيلية. هنا أيضا، وعلى حد تعبير الخبير البريطاني، تصدعت المهمة الإسرائيلية. ورغم أنه بحلول الثالث من أغسطس كان الجيش الإسرائيلي قد اكتشف 40 نفقا فلا يوجد ما يؤكد أو يضمن أن تلك هي فقط كل الأنفاق التي حفرتها حماس. ولابد من الأخذ في الاعتبار أنه أصبح لدي الحركة مهارات وخبرات بشرية كبيرة في مجال حفر الأنفاق. وأحد الانفاق المكتشفة يؤكد هذا حيث يبلغ عمقه نحو 20 مترا تحت الأرض بطول 2,4 كيلو متر، وهذا النفق على سبيل المثال استخدم الفلسطينيون لتشييده نحو 350 طنا من الاسمنت والدعائم لتبطينه وتثبيت جدرانه. ويعتقد البعض أن هناك أكثر من سبعة آلاف فلسطيني يعملون في هذا النشاط، وأصبح لديهم خبرة كبيرة في حفر الانفاق.
هذا يوضح كما يقول روجرز قدرة حماس على حفر مزيد من الأنفاق غير التي دمرتها إسرائيل، أو استخدام أنفاق أخرى لم تكتشفها إسرائيل وهو أمر غير مستبعد. وسيكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يكتشف الجيش الإسرائيلي كل الانفاق.
يتطرق تقرير روجرز بعد ذلك الى قراءة سريعة، ولكن بالغة الأهمية في أرقام الخسائر الإسرائيلية التي يعتبرها مرتفعة قياسا على العمليات السابقة. وعلى سبيل المثال في عملية الرصاص المصبوب ضد غزة أواخر 2008 وأوائل 2009 فقدت إسرائيل خلال 23 يوما تسعة جنود في المعارك وأربعة بنيران صديقة. أما في العملية الأخيرة فقد فقدت 64 جنديا في 28 يوما، وحجبت الرقابة العسكرية أعداد المصابين الذين تقدرهم مصادر إسرائيلية غير رسمية بنحو 400 مصاب.
مقارنة أخرى بالغة الاهمية والدلالة يقدمها روجرز بقوله إن نسبة تعداد إسرائيل (من اليهود فقط) الى نسبة تعداد السكان في بريطانيا هي 1 الى 9 وعند حساب الخسائر النسبية فإن هذا يعني أن خسائر إسرائيل في 28 يوما من معارك غزة تتجاوز الخسائر البريطانية مجتمعة في ست سنوات من الحرب في العراق و12 عاما من الحرب في افغانستان.
انتهت شهادة الخبير البريطاني.