بين الشط والموج

عدسة ونص ـ تحسين يقين –

حملتها نفسي، وجسدي والروح، وعلى أجنحتها الهوائية صرت كائنا بحريا.. وحين تعبت الأطراف بعد جهد العوم على موجة طائرة، صحت الروح:

ها أنذا أعود لسؤالي القديم:

ما المدّ؟ ما الجزر؟ أهو ماء زائد يدفعه البحر لتقبيل الشاطئ؟ ورد الهدية للبحر بالجزر؟

مدت موجة، فصارت شاطئي الصغير أملس.. فصار جزر، تلك موجة واحدة: مدّ وجزر..

مدّت أخرى، فصارت أرض البرّ الصغير ملساء الرمل، ثم عادت إلى بحرها..

جزر يليه مدّ، ولا يتعب البحر، ولا الشمس ولا القمر.. وأنا في مكاني أقاسي ألم سؤالي القديم!

دقق في الموج أكثر. في البرّ الأملس الذي تبلله الماء وتنحته ناعما.. صوت همس في أذني، فلبيت النداء:

لأصف الحال، لكن كيف لي أن أوثق الموجة، وهي بلا وثاق، والبحر العظيم أبوها والأم!

مدت ثالثة ورابعة وعاشرة..وعشرون ومائة، وأنا أبحث عن الموجة..

وجدتها:

الاكتشاف الأول: للأمواج في المدّ رؤوس!

والثاني: الأمواج مختلفة، فلكل موجة تكوينها الخاص والفريد، الذي لا يتكرر!

حين يأتي المدّ، تتكون رؤوس للموجة المقبلة للبرّ، وعلى كل رأس وضعت صدفة من البحر وانتظرت.. ومع موجة المد الجديد جددت أماكن الأصداف.. وبتتالي المدّ، وجدت نفسي أطارد رؤوس مدّ الموجات، فتكونت لوحات فنية معاصرة بين البحر وبين الشاطئ.

كل رأس من رؤوس المد، يحكي تاريخا، وهو المكون مما تبقى من الزبد في رحلته الأخيرة على الرمل، بعد طول عرك مع البحر منذ زمن تكون الموجة في بطن البحر! وبالصدف كان الاكتشاف.. وصدفة كان!

فنية تكوين الأمواج، تقنية الموجة الواحدة..

مقابلي، الطفل يكون بيوتا من رمل، وأمه تلهو معه كطفلة، وكل بما وهب كل بما يحب ويهوى، وكل بما يودّ من أدوات لتمضية الوقت هنا تحت السماء الزرقاء والبحر..ترى لماذا لم ينشغل الطفل ببراءته؟ ولم لم تنشغل المرأة بجماله؟

هنا لا ننشغل بأنفسنا، بل باللعب والتأمل، بالبحر والآخرين..

أرفع رأسي باتجاه الكرمل، هناك كنا قبل قليل، واخترت الهبوط مشيا أو لعله تدحرجا على الجبل..

كنت أنظر له في عشقه الدائم، وهو يصر على أن يظل ينظر نحو البحر..

سيسبح الذهن والشعور، أمواج من الذكريات، وفي بيت أبو خالد السيد أسعد عودة، في حي الكبابير على جبل الكرمل، مشهد البحر من جهة ومشهد السلاسل الجبلية على الكرمل، مرتبة وقوية، تحدت أكثر من 65 عاما ولم تخرب، لعلها عمر المأساة.. مباركة الأيدي التي صنعت. هناك كنيسة، دير، أبقار ترعى، تناولنا إفطارنا ذات صيف، لكن عيوننا كانت تأكل البحر.. يوما ما سأهبط إلى البحر مشيا.. هبوطا من الكرمل، سأمرّ وأصحابي متفقدين المكان، فأتأمل السلاسل الجبلية التي نسميها نحن الفلاحين سناسل.. أكاد أقبلها..

أين ذهب البناؤون يا سناسل الكرمل؟!

للسائحين في الفندق الكبير، وللسابحين والسابحات، للمستلقين والمستلقيات بعيون إلى الأرض أو إلى السماء أن يسترخوا، ولي من دون الخلق أن تشتد أعصابيّ؛ فسياحة العين والروح ما أقساها والذكريات!

أتأمل الموج، والطفل باني بيوت الرمل، الذي صار يحنّ إليها، وكيف اجتهد بأن يطمئن على بيوته وهو يتركها..وأمه التي جاءت من روسيا أو أوكرانيا تبحث عن العسل والسمن هنا! فأجد نفسي تعود لسؤالها القديم-الجديد: ما المدّ والجزر!

«المدّ والجزر هو ظاهرة طبيعية من مرحلتين تحدث لمياه المحيطات والبحار: مرحلة المدّ يحدث فيها الارتفاع وقتي تدريجيّ في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر، ومرحلة الجزر يحدث فيها انخفاض وقتي تدرجي في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر. وتنجم هذه الظاهرة عن التأثيرات المجتمعة لقوى جاذبية القمر والشمس ودوران الأرض حول محورها (قوة الطرد المركزية).

القمر والشمس أم الشمس والقمر؟

لعلي أعود إلى عبث جدل الفتيان عن المذاهب، وجدل الكبار عن الأيديولوجيات ونظم الحكم والربيع! وكيف مع كل ضياع جديد ندخل في جدل جديد!

قال المعلم: الموج مدّ وجزر؛

فقفز إلى الشعور حروف المدّ والجزر.. وكلما قضمت جزرة، قلت ترى كيف طعم الجزر!

حتى كان صيفا وبحرا، فانطلق الفتى بشوق إلى الموج، رأى الزبد من بعيد قادم إلى البرّ، فقال في نفسه: هذه هي الأمواج!

اقترب منها، ففتش عن الجزر..

ولأول مرة ذاق طعم الموج، وكان هو طعم البحر! طعم الذكريات والتاريخ..وطعم الآن!

كان الموج يلمع إلى جهة يافا، يكاد الموج يبيض ويزداد بياضه، ثم يلتقي مع بياض الأفق، ثم تتلألأ قطرات ماء الأمواج والعين أيضا…

ولا مسافة بين الشاطئ والموج!