في سياق الحديث عن العنصرين الزماني والمكاني لا يبدو حضور دار الأوبرا السلطانية مفاجئا في المشهد الثقافي العماني.
فمنذ البدايات الأولى لعصر النهضة المباركة أخذ الاهتمام بالموسيقى والفنون العمانية حيزا كبيرا، بل واهتماما شخصيا من قبل حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- ويمكن أن تقرأ دار الأوبرا السلطانية باعتبارها تتويجا حقيقيا للمشهد الثقافي العماني، بل وتتويجا للاهتمام السامي بالفنون والثقافة بشكل عام والموسيقى بشكل خاص، ويمكن أن نتذكر في هذا الموضع إنشاء الأوركسترا السلطانية العمانية منتصف ثمانينات القرن الماضي والتي تعد اليوم في مقدمة الفرق الأوركسترالية في العالم أجمع. لكن لا يمكن أن ينظر لدار الأوبرا السلطانية باعتبارها مكانا لعرض الموسيقى والحفلات الغنائية الراقية فقط، إنها أكبر من ذلك بكثير وهذا ما يصر عليه القائمون على الدار منذ البدايات الأولى، ويتم الإصرار عليه في كل المؤتمرات الصحفية واللقاءات مع أعضاء مجلس الإدارة.
ويمكن هنا أن نستعيد ما قاله صاحب السمو السيد كامل بن فهد بن محمود آل سعيد عضو مجلس إدارة الدار، في آخر مؤتمر صحفي نظمته دار الأوبرا السلطانية عندما أكد: «إن هدف الدار ليس مقتصرا على ما تقدمه من عروض، بل هي بمثابة مكان للتعليم والحوار وذلك من خلال ما يتم طرحه من برامج تعليمية خاصة وفعاليات توعوية». وفي الحقيقة إن كلام صاحب السمو عضو مجلس الإدارة دقيق جدا، فالدار تستقطب سنويا آلاف الطلاب من الذين ينخرطون في برامج تعليمية في أروقة الدار، فهم إضافة إلى حضورهم الحفلات الخاصة التي تخصص لطلاب المدارس، يشاركون بفعالية وهمة في الأيام المفتوحة التي تخصص لهم.
كما يحرص الكثيرون على إحضار أبنائهم للدروس التي تقدم قبيل بدء أي عرض، وهي بمثابة مركز تثقيفي وتنويري في هذا المجال.
إضافة إلى البعد الثقافي والتتويجي للمشهد الثقافي العماني لا يمكن أيضا تجاوز بعد السياحة الثقافية التي لا شك أنها كانت حاضرة في الذهن، خاصة أن السلطنة تتمتع بتاريخ ثقافي وحضاري ضارب بجذوره في عمق التاريخ.
ويبدو أن تلك الرؤية كانت تتمتع بحس استشرافي دقيق جدا ولذلك فإن الآلاف اليوم يزورون السلطنة ويتجولون في ربوعها ويكون هدف زيارتهم الأول حضور عروض في دار الأوبرا السلطانية، وتعطي مبيعات التذاكر مؤشرا صادقا جدا، فيما يخص هذا الموضوع خاصة ما يتعلق منها بالحجوزات التي تتم من الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية.
وإذا كان إنشاء دار الأوبرا السلطانية تتويجا للمشهد الثقافي في السلطنة فإنه كذلك تتويج لتطور المعمار العماني الذي تفاعل مع الكثير من الأنماط المعمارية الأخرى في الإقليم.
ومنذ النظرة الأولى يستطيع الزائر للدار اكتشاف تأثر الدار ببناء القلاع العمانية، وهذا يتجلى في المشربيات الخشبية التي تتميز بها البيوت العربية في تصميم بعض التشكيلات الخشبية داخل مبنى الأوبرا.
وهذا أيضا تلمسه بشكل جلي في تصميم الفوانيس والثريات، وهو أمر يعود إذا ما أعيد إلى بعض جذوره في العصر المملوكي، إلا أن العصر المملوكي ليس الوحيد الموجود بثراء في مبنى دار الأوبرا السلطانية، بل هناك مشاهد لزخارف مغولية وهندية في العديد من جدران المبنى.
وتتناغم هذه الزخارف وذلك الميراث متعدد الأعراق والحضارات بشكل حواري جميل ومتناغم مع الرخام الذي يلعب دورا أساسيا في تصميم دار الأوبرا، حيث استخدم رخام «الترافرتين» الجيري بشكل كبير مما أنتج بريقا بديعا في الأجزاء الداخلية والخارجية، وأعطى المكان الكثير من سمات الاتساع والإضاءة التي يمكن أن يطلق عليها بهدوء وحب إضاءة كلاسيكية، وهي تعطي بسخاء مساحة للرؤية العميقة من خلال الأروقة والعقود المتتابعة.
وهذا في مجمله قيمة معمارية بارزة في بناء دار الأوبرا السلطانية، حيث فكرة العبور فوق الأزمنة، وعبرها، مما ينتج في النهاية تراكما معماريا يستلهم من مختلف الحضارات التي مرت على الشرق، وهو في هذا وذاك اختزال للإبداع في أبهى صوره.
ولأن الحوار الحضاري يحتاج إلى تمازج بين الأصالة والمعاصرة، ولما كانت دار الأوبرا السلطانية معدة لتستقبل عروضا موسيقية وثقافية عالمية على نحو تكون فيه التقنية العامل الرئيسي، فقد جاء تصميم الدار ليتناسب مع آخر ما وصلت إليه التقنية الحديثة في مجال دور الأوبرا في العالم، حيث زودت بأحدث النظم التقنية المتعلقة بمعالجة ارتدادات الصوت وصداه لكي تتناسب مع نوع الفعالية المقامة، سواء بامتصاص الصدى أو تضخيم الارتدادات، وقد تم دمج النظم في تصميم المبنى لاستعمالها في مختلف أنواع الفعاليات التي تستضيفها الدار.
وعلى الرغم من كل التقنيات الحديثة التي يمكن الحديث عنها في دار الأوبرا السلطانية، إلا أن الانطباع العام يحيلنا إلى الأناقة العريقة فالمقاعد الوثيرة مزدانة بكمنجات مخملية مذهبة على خلفية حمراء، والأسقف والجدران من خشب الساج المتقن الزخرفة.
وبكل هذا الزخم وهذا الحضور في المشهد العالمي تسير اليوم دار الأوبرا السلطانية بخطوات ثابته نحو الأمام ورغم أن عينها على المشهدين المحلي والعالمي، إلا أن المؤكد أن عين العالم الراقي والمتخم بالحساسية الفنية عليها ومن كل الزوايا.