سعيد الكندي -
تركته وحيداً منهمكاً يعبث بجهاز هاتفه النقال، عندما استأذنت منه بكل أدب وذوق جمين لم يرفع ناظريه، ربما أتذكر أنه صفح بشطر وجهه نحوي بإيماءة تبدو أنها لم تقصد، وأنا في حالة تركي المكان لم أشأ أن أرفع بصري عنه الى أن خرجت، وتركته وحيداً، وحيداً، وحيداً..كما خلق، عار من أي رقعة يغطي بها جسده، كان عارياً تماماً. وكنت عند الجرف وحيداً.
سألته يوماً إن كان سيذهب معي الى الجرف؟ أجابني بأنه سيأتي، ولكن بعد أن ينتهي من تحرير آخر رسالة يكتبها، فطال انتظاري له إلى أن حل الظلام، ومنظر الجرف لا ينتظر، وخاصة أنه يطل على بحر وفضاء رحب، يتماس الأزرقين بينهما بتماه بالكاد يدرك، أما عند الغروب فالصورة أعجز من أن توصف، لماذا في كل مرة نفوت اللحظات التي يجب أن نقتنصها؟ متى سنحقق الرغبات البسيطة وليست المركبة في حياتنا؟ أجابني بأن لا تستعجل الأمور، ففي الحياة متسع، قلت في نفسي: الحياة مقدارها ساعة واحدة فقط، ولكننا نستطيع أن نحقق فيها ما ننجزه في أيام عمرنا كلها.
إنك في قمة شبابك، الليل ليس لك، النهار والشمس لك، جسدك يريد الظلام كما يريد الضوء، عيناك مشعتان طوال الليل ولا ترقدان، معاش الليل سبات النهار، قد قلبت الآية رأساً على عقب، إن مخالفة السنن الكونية، والاتجاه بعكس عقارب الساعة البيولوجية أكبر خطر على صحتك، ستهرم قبل مجيء شيبك، سيذهب بريق عينيك، سيذوي جسدك كوردة في أوج الربيع، استيقظ من غفوتك، لقد انتصف النهار، كان ميتاً..كان ميتاً..ميتاً، لم كل هذا؟ خرجت من فمه كلمات لم أتبين معناها، كان يهذي هذياناً متواصلا الى أن دخل في السبات مرة أخرى، حاولت ايقاظه لكي نلحق بمنظر الجرف قبل أن يتلاشى ويدخل في سدف الظلام، عبثاً حاولت..حاولت..وحاولت، كانت أشبه برقدة الموت، بل كان موتاً، إنك عكس التيار، العالم من حولك يشهد النهار، يرتبط الناس من حولك متعانقين متعاقدي الأيدي، في حينها أنت مسجى على أريكة يتآكل جسدك قيح وصديد أوقات حقيقة الحياة الضائعة.. وقتك ينسل كماء من بين أصابعك، متى ستلحق بالركب؟ سؤال اتمنى أن يستيقظ قبل فوات الأوان.
عندما وصلت الرسالة كنت أغط في نوم عميق، نوم هانئ، نوم هادئ وحقيقي، ونقي طبيعي، كان الظلام يغلف أرجاء الغرفة، كنت قد قضيت سحابة النهار في عمل متواصل، كنت احلم بمنظر الجرف، كنا جالسين أنا وهو، سألني إن كنت أستطيع الطيران من الجرف الى أسفل والعودة مرة أخرى كما تفعل الطيور.
فأجبته بأني لا أمتلك أجنحة مثلها، قال لي بإنه يستطيع ذلك، يستطيع أن يحلق من أعلى الجرف، ويسبح في طبقات الفراغ ثم يعود إلى من حيث انطلق، كانت آخر رسالة منه تحلق في الفضاء، كانت ترتق ما انفتق منه، وتصور آخر مشهد للجرف… حيث هناك انتظر.