ماجد كيالي -
majedkayali@gmail.com -
تتمخّض الحروب دوماً عن خسائر بشرية هائلة، وعن دمار في الممتلكات، وخراب في العمران، وبعد كل ذلك عن تغيّر في رؤية الذات والعالم، وهذا ينطبق أيضاً على الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة، علماً أنها الحرب الثالثة من نوعها خلال ستة أعوام، وأنها اتت في ظل حصار طويل يكابده الفلسطينيون منذ ثمانية أعوام.
اللافت أن إسرائيل وهي الطرف المبادر في هذه الحروب، وصاحبة القوة التدميرية الأكبر، والأشد فتكا وتدميراً، تقوم في كل مرة بتقديم كشف حساب عن الخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها، وبإجراء مراجعة لاستراتيجيتها العسكرية والسياسية، ولواقع الجبهة الداخلية فيها، ومدى استعداد مجتمعها للتحمل، او لدعم الحرب، وكذا لصورتها في الرأي العام الدولي.
في هذا الإطار، مثلاً، وبحسب تقرير كتبه رافي جربي وجون بن زاكن وآفي ليتال، ( «معاريف»، 6/8)، فقد لقي في هذه الحرب حوالي 64 ضابطا وجنديا مصرعهم، في حين أصيب 1580 آخرون بجروح على مستويات مختلفة من الخطورة (علما ان احصائيات المقاومة تتحدث عن مصرع اكثر من مائة من العسكريين). وبحسب التقرير فقد جندت إسرائيل في هذه الحرب 82.201 الف جندي احتياط. اما من جهة المدنيين فقد ادت الحرب إلى مصرع ثلاثة مدنيين من الإسرائيليين، وأصيب ستة بجروح خطيرة، كما اصيب قرابة 1000 بشظايا الصواريخ، حطام الزجاج، الصدى، حوادث طرق في اثناء الصافرات، التعثر في اثناء البحث عن مأوى وإصابات الهلع. وبحسب التقرير فإن الجيش الاسرائيلي هاجم 4.762 هدفا في أرجاء القطاع. واكتشف 32 نفقا وعطلت. وأن الحرب كلفت 15 – 20 مليار شيكل (نصفها نفقات الجيش)، وهو مبلغ كبير جدا، ولكن ليس مبلغا لا يمكن للاقتصاد الاسرائيلي أن يحتمله. إذ أن الناتج القومي الاجمالي لإسرائيل يبلغ نحو تريليون شيكل (حوالي 300 بليون دولار) وإنفاق 20 مليار شيكل هو نحو 2 في المائة منه. وحسب تقديرات دائرة الاقتصاد في اتحاد ارباب الصناعة، فان الضرر الذي لحق بالصناعة تجاوز حافة المليار شيكل. ويقدر الضرر بالزراعة بـ 150 حتى 200 مليون شيكل والضرر للسياحة بأكثر من مليار شيكل. وينبغي أن يضاف الى ذلك الضرر الهائل بالتجارة ولا سيما بالأعمال التجارية في الجنوب، والذي قد يصل الى بضع مليارات من الشيكل، وكنتيجة لذلك ضرر بالمداخيل من الضرائب لصندوق الدولة بحجم نحو مليار شيكل. كما من المتوقع أن تكون للحملة اضرار اقتصادية بعيدة المدى في مجال التجارة الخارجية لإسرائيل. فالهجمات في غزة ونتائجها خلقت اجواء مناهضة لإسرائيل ويحتمل أن تترجم الى انخفاض في المشتريات من اسرائيل ومقاطعة المنتجات من اسرائيل.
ثمة تقرير آخر كتبه عاموس هرئيل وغيلي كوهن، يتحدثان فيه عن طبيعة الهجمات العسكرية الإسرائيلية، وضمنه ان الجيش الإسرائيلي استخدم في القتال في قطاع غزة قوة استثنائية من نار المدفعية بما في ذلك في المناطق المبنية باكتظاظ. وانه بعد ثلاثة أسابيع من القتال (منها 12 يوما من العملية البرية) أطلق نحو 30 ألف قذيفة على غزة، علما أنه في حملة «الرصاص المصبوب» في 2009، لغرض المقارنة، أطلق الجيش الاسرائيلي نحو 8.000 قذيفة مدفعية. من أصل هذه الكمية، نحو النصف (4.000) كانت قذائف دخان. نحو 1.000 قذيفة كانت قذائف إنارة، والباقي نحو 3.000 قذيفة متفجرة. في تلك الحملة، كانت التعليمات للقوات بالامتناع عن النار على المناطق المبنية، إلا في حالات استثنائية ضرورية لإنقاذ القوة. معظم إطلاق النار تم في حينه الى مناطق مفتوحة أو أطراف المناطق المبنية. ويمكن التقدير بان العدد الاجمالي لقذائف المدفعية التي أطلقت في «الجرف الصامد» أعلى بـ 4 أضعاف ما أطلق في «الرصاص المصبوب». يقول كاتبا التقرير: «تعتبر قذائف المدفعية نارا «ثابتة»، لا تسمح بالإصابة الدقيقة للهدف. قذائف من عيار 155 ملم تطلق بشكل عام نحو منطقة بعرض 50 مترا وبطول 50 مترا..مثل هذه المنطقة كفيلة بان تضم أكثر من خمسة مبانٍ، واستخدام السلاح الجوي، او الصواريخ للمدى القصير التي تطلق من الارض مثل «تموز» (أطلق نحو 200 منه) تؤدي الى دقة كبيرة بقدر واضح في اصابة الاهداف. («هآرتس»، 15/8/2014)
هنا يمكن ان نذكر، أيضاً، أن هذه الحرب أعادت للإسرائيليين الشعور بالخطر، وعززت ادراكهم بأن إسرائيل هي المكان الأكثر تهديدا لحياة اليهود، بسبب سياسات حكامها، عكس ما تحاول هذه الدولة ترويجه، بادعاء أنها قامت من اجل حماية حياة اليهود. وعن ذلك يقول جدعون ليفي: «دولة إسرائيل اليوم هي أخطر مكان في العالم على اليهود. فمنذ إنشائها لا يوجد مكان آخر أصيب فيه هذا العدد الكبير من اليهود كما في حروبها والعمليات التي حدثت فيها. («هآرتس»، 14/8). بيد أن هذا الانطباع يخلق ضده، ايضا، إذ إنه ينمي مشاعر الخطر عند اليهود الإسرائيليين، ويعزز روح التطرف والعنف لديهم ازاء الفلسطينيين، ويوحدهم من خلف التيارات القومية واليمينية المتطرفة.
أما من جهة الفلسطينيين، فعدا عن الخسائر البشرية، مع اكثر من الفي شهيد وعشرة آلاف من الجرحى والمعاقين، ودمار عشرات ألوف المنازل والممتلكات والمنشآت الخاصة والعامة الصناعية والزراعية والخدمية، والبني التحتية، ونزوح حوالي نصف مليون من منازلهم وأماكن سكناهم، فليس ثمة بعد عملية احصائية من وراء كل ذلك. ايضا لا احد يراجع الاستراتيجية المتعلقة بالضرب بالصواريخ، وجدواها، إن بالنسبة لإيلام الإسرائيليين، او بالنسبة لتعزيز مقاومة الفلسطينيين.
علما انه في الانتفاضة الاولى الشعبية (1987ـ 1993) استطاع الفلسطينيون تحييد سلاحي الطيران والمدفعية، وهذا امر غاية في الأهمية، وحققوا انجازات مهمة لقضيتهم، وضمن ذلك كسر احتكار اسرائيل لمكانة الضحية وتعزيز التعاطف مع قضية فلسطين في الرأي العام العالمي، والتـأثير على المجتمع الإسرائيلي بخلق تصدعات في داخله من حول قضيتهم. بالمقابل فإن الانتفاضة الثانية، التي طغى عليها البعد العسكري، سيما وفق نمط العمليات التفجيرية، لم تستطع ذلك، إذ أدت الى توحيد الإسرائيليين من حول التيارات القومية المتطرفة، وبررت لإسرائيل بطشها بالفلسطينيين، بحيث تمكنت بعد عام 2004 من وقف المقاومة في الضفة وفي غزة. علما ان العمليات التفجيرية كانت اثارت هلعا اكثر بين الإسرائيليين، وكانت الصواريخ البشرية كبدت اسرائيل اكبر قدر من الخسائر البشرية في تاريخها، مع مصرع اكثر من ألف إسرائيلي في أربعة اعوام، ضمنهم 452 في العام 2002 لوحده.