د. عبد العاطى محمد -
عندما انتهى مؤتمر الحوار الوطني في اليمن إلى عدة مخرجات وصفت بأنها حل مرض لمشكلات نقل السلطة، ووضع اليمن على طريق التحول الديمقراطي، انتقل اليمن من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، حيث القدرة على تفعيل هذه المخرجات وسط ظروف سياسية بالغة التعقيد. وبعد نحو أربعة أشهر من انتهاء أعمال المؤتمر تكشفت مصاعب التطبيق، وجاءت الأزمة التي تفجرت بين الحوثيين والسلطة على خلفية رفع أسعار مشتقات الوقود، واحدة من أبرز مشاهد التراخي في تفعيل هذه المخرجات، منذرة بإعادة اليمن إلى نقطة الصفر.
لقد تصاعدت الأحداث منذ إعلان الحكومة اليمنية عن رفع الدعم جزئيا عن أسعار الوقود، حيث اعتبر الحوثيون القرار تصرفا منفردا من جانب الحكومة، ويتسم بالخطورة لأنه يمس الحياة المعيشية لغالبية الشعب اليمني الذي يعاني من ظروف معيشية بالغة الصعوبة، ولا يستطيع تحمل المزيد من الأعباء. وقرر الحوثيون منفردين أيضا قيادة موجة شعبية ثورية جديدة ضد النظام، واتخذ تحركهم طابعا مزدوجا، سلميا بإقامة مسيرات والعودة إلى أشكال التجمعات الاحتجاجية عند مداخل العاصمة صنعاء، ومسلحا باستعدادات مسلحة للصدام مع القوات الحكومية بحفر الخنادق، وإقامة المتاريس والدفع بأعداد كبيرة من مسلحيهم. وبالطبع لم تتقبل الحكومة، ولا الرئاسة مثل هذه التصرفات التي اعتبرتها تحديا لسلطة الدولة. بل محاولة صريحة لإسقاطها، فهددت الحوثيين وتوعدتهم برد قاس إذا واصلوا هذا العمل، واستنفرت قواتها متأهبة للصدام معهم، وفي نفس الوقت مدت يد التفاوض مع زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي للتوصل إلى حل سياسي للأزمة تجنبا للحل العسكري. وفي هذا الصدد قال الرئيس عبد ربه منصور هادي: «إن تكرار هذه الممارسات من جديد (يقصد الضغوط الاحتجاجية العنيفة التي عرفتها مرحلة الثورة اليمنية) لن نحصد من ورائها سوى الكوارث والفوضى وإراقة الدماء.
وعليه فإن الدولة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام تصعيد الحوثيين الخطير الذي يمس اليمن كله وليس العاصمة صنعاء وحدها».
وأيا كان مصير مثل هذه المواجهة الخطيرة، فإنها كانت كاشفة لأزمة أكبر هي العجز عن تحقيق التوافق في تفعيل مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، بل الأدق كشفت الغموض الذي لا يزال يحيط بالمقصود من التوافق كأسلوب لحل أزمة نقل السلطة وإقامة نظام ديمقراطى بديلا للنظام القديم.
فالتوافق ليس مجرد مفهوم فضفاض يفسره كل طرف حسب مصالحه أو هواه، وإنما هو مفهوم سياسي عرفته التجارب المشابهة في البلدان التي تعاني من تجزئة مذهبية دينية كانت أم عرقية أم لغوية أو جهوية وتريد أن تبني دولة قوية مستقرة جامعة لكل القوى والأطياف التي يجب أن تتشارك في السلطة وتتمتع بكامل حرياتها وتلتزم بتنفيذ كامل واجباتها. وهو أسلوب يتم اللجوء إليه عندما يكون من الصعب حسم المواقف واتخاذ القرارات بقاعدة الأغلبية والأقلية. ويفترض الإقرار بالتراضي الصريح أو الضمني من كل القوى بما يتعين عمله لمواجهة أزمة ما.
وحينئذ يتعين أن تتحلى كل الأطراف بالمصداقية والنيات الحسنة والالتزام المطلق بتنفيذ ما يتم الوصول إليه من مواقف وقرارات حتى لو كان غير متفق تماما مع كل مصالحها. وهو بطبيعته أسلوب إيجابي بمعنى أنه يتعين أن يكون فعالا وليس وسيلة لاستمرار الخلافات؛ فلا يعقل أن يظل سقفه مفتوحا للجدل وإلا لن يتغير من الحال شيء ما. ما يرد تحت عنوان التوافق غير هذه الشروط ما هو إلا توافق معطل، ففي الظاهر يكتسب السمات التي تجعلنا نطلق عليه توافقا، بينما من الناحية الفعلية أي من حيث الممارسة هو توافق يفتقد لشرط محوري هو عدم توافر الإيجابية، أي التوصل إلى نتائج تراكمية تقود في اتجاهها العام إلى تحقيق الأهداف التي من أجلها تم الاتفاق على هذه الآلية.
وواقع الأمر أن اليمنيين نجحوا فعلا في اختيار هذا الأسلوب منذ أن وقعت الثورة في بلادهم . وقد ساعدهم على ذلك أن لديهم خبرات حزبية طويلة في كيفية التعامل مع الأزمات حيث هناك مناخ عام يحترم فيه كل طرف وجود الآخر، وهناك آليات للتواصل بين القوى السياسية والأحزاب بغض النظر عما بينها من خلافات ومنافسات.
هناك تاريخ من التجربة البرلمانية ثري بالتوافق بين القوى المختلفة، فضلا عن الوشائج القبلية التي غالبا ما تفرض التوافق مخرجا للأزمات. ومن تابع مسار التحول الديمقراطي في اليمن بعد الثورة لمس عدة حقائق تؤكد الحرص على التوافق بالمعنى المشار إليه سلفا, فقد تم نقل السلطة دون حرب داخلية، وتشكلت حكومة توافق وطني، وعقد حوار وطني حول القضايا الكبرى استمر شهورا طويلة كان في مقدمتها قضيتي صعدة والجنوب وتوصل الحوار إلى أجندة تكاد تكون تفصيلية لمسارات مثل هذه القضايا وصولا إلى وضع الدستور وإقامة المؤسسات الجديدة، وكلاهما من ضروريات التحول الديمقراطي.
إلا أن التأخير في تفعيل مخرجات مؤتمر الحوار الوطني فتح المجال لإثارة الخلافات مجددا. وجاءت الأزمة الأخيرة لتكون أبرز العناوين لهذا التأخير غير المبرر في حقيقة الأمر. إنها عنوان صارخ لما يمكن تسميته بالتوافق المعطل. فمن المعروف على سبيل المثال أن مخرجات الحوار الوطني تضمنت نزع سلاح الجماعات السياسية أيا كان توجهها، وأن تتحول الحركات السياسية إلى أحزاب، والمعنى هنا أنه لا قيود على العمل السياسي لأي جماعة كانت بشرط أن تتخذ الطريق المؤسسي المدني المعروف وهو الأحزاب وان تكون سلمية، بينما مفهوم الحركة ينطوي على صيغة فضفاضة لا تتحلى بالطابع المؤسسي وتطلق لنفسها العنان في استخدام أدوات الضغط السياسي دون قيود ومن ثم لا تخضع للقانون، بالإضافة إلى أنها غالبا ما تميل إلى العنف نظرا لطابعها الفكري المتشدد. وتطبيقا لمخرجات الحوار الوطني الذي شارك فيه الحوثيون أنفسهم بما يعني أنهم وافقوا على هذه المطالب، فكان يتعين عليهم نزع سلاحهم وتسليمه للسلطات الشرعية، وان يتحولوا إلى حزب سياسي. ولكنهم رفضوا ذلك (حتى الآن)، بل باشروا نشاطا مسلحا ضد الدولة واستطاعوا أن يبسطوا سيطرتهم على صعدة وعمران وسعوا إلى مدنفوذهم المسلح إلى الجرف ومناطق داخل صنعاء ذاتها. وعندما أرادت السلطة التصدي لهم ونزع سلاحهم هزموا قواتها في المناطق المذكورة، بل استولوا على عتاد القوات الحكومية. الحوثيون يتحججون بأن مخرجات الحوار لم تتحقق أصلا من الدولة حتى يقبلوا بمثل هذا الوضع، فقد كان من المفترض وفقا لهذه المخرجات أن تتشكل هيئات حاكمة للإشراف على تفعيلها والتي من بينها نزع سلاح الجماعات السياسية، وهو ما لم تقم به الدولة فعلا.
ومن هذا الجانب فإن الحوثيين في حل من أن يقبلوا بنزع سلاحهم. والدولة من جانبها تعترف بالتأخير في تفعيل المخرجات ولكنها تتحجج بأن العملية تحتاج إلى توافق؛ حيث لا يمكن إقامة هيئات حاكمة إلا بتوافق كل القوى، وهو ما لم يتحقق حتى الآن ولكنها تواصل العمل لتحقيقه إلا أنها تحتاج إلى وقت. هكذا الخطأ يقع على الجانبين، إلا أن بيت القصيد يكمن في العجز عن التوافق!!.
مثال آخر لمشهد عدم التوافق الذي كان سببا رئيسيا في انفجار الوضع, هو ما طالبت به مخرجات الحوار الوطني من تشكيل حكومة وفاق وطني لتجسيد مشاركة كل القوى في الحكم وليس أطرافا بعينها. ومع أن الحكومة الحالية يمكن وصفها بحكومة توافق وطني لأنها تشكلت بموافقة حزب المؤتمر الحاكم وأحزاب اللقاء المشترك( المعارضة) إلا أنه وفقا لنتائج مؤتمر الحوار الوطني كان يتعين تشكيل حكومة جديدة تطبق روح مخرجات الحوار وهو ما لم يحدث أيضا. وقد تحجج الحوثيون بأن قرار بحجم خطورة رفع الدعم عن أسعار الوقود، كان يحتاج إلى حكومة، يتم من خلالها مراعاة وجهة نظر الجميع لا أن يتم اتخاذ القرار بشكل منفرد. وعندما احتدمت الأزمة عرضت الدولة مشاركة الحوثيين في الحكومة ولكنهم لم يستجيبوا لأن سقف مطالبهم كان قد تعاظم بشدة عاكسا تزايد نفوذهم وقوتهم بعد أن سيطروا على صعدة وعمران (معقل قبائل حاشد كبرى القبائل اليمنية) وأصبحوا يطالبون بإسقاط الحكومة برمتها وليس المشاركة فيها!.
لدينا إذن توافق ظاهرى أو شكلي يجسد آلياته فعلا، ولكن من حيث الممارسة لم تتغير قواعد اللعبة؛ حيث الذي يفرض قوته على أرض الواقع يفرض صيغة التوافق. هو توافق معطل بكل تأكيد قد يمنع انفجار الأوضاع أو يؤخر انفجارها، ولكنه لا يحقق تغييرا في مسار التحول الديمقراطى، بل بفتح الباب للصدام المسلح.