عمر كوش –
كاتب سوري –
kouch.omar@gmail.com
لعل قوى الثورة، اليوم، مدعوة إلى العمل لإعادة السياسة إلى المجتمعات العربية، بمعناها المدني الواسع، الذي حرمت منه على مدى عقود عديدة، بما يعني أن القوى الديمقراطية مدعوة أن لا تترك الساحة لقوى التطرف، التي تستغل الدين أو الطائفة أو الأثنية أو غيرها لتحقيق مآرب سياسية، وذلك من خلال العمل على تشكيل أحزاب وتيارات سياسية.
أماطت الثورات العربية اللثام عن دعاة الفكر القومي بشكل خاص، والفكر اليساري بشكل عام، وكشفت تهافت مقولاتهم عن الأمة والشعب والمواطنة وسواها، إذ لم يتردد أغلبهم من الوقوف ضد هذه الثورات الشعبية، وأعلنوا وقوفهم إلى جانب نظم الاستبداد، التي ترفع شعارات قومية مزيفة، إلى جانب شعارات مخاتلة عن الممانعة والمقاومة.
واختبرت الثورات العربية حملة الأفكار القومية واليسارية الطانة، في خيارهم الديمقراطي، ومدى اقترابهم والتزامهم بمصالح الناس وحقوقهم، وأعادت فرزهم بطريقة لا لبس فيها. وتبيّن أن الأحزاب اليسارية والقومية، عاجزة عن إحداث قطيعة معرفية وسياسية مع ماضيها، القائم على الإقصاء والأحادية، وعلى التعبئة الايديولوجية ذات الاتجاه الوحيد، حيث لا يزال قادتها وممثلوها أسرى نفس العقلية القديمة ونفس النهج القديم.
والواقع هو أن القوميين الأشاوس الذين قاموا بانقلابات عسكرية في كل من مصر وسوريا والعراق، بعد الاستقلال، أعلنوا فيها عن اعتلاء فئات، عسكرية ومدنية من الطبقة الوسطى والدنيا الريفية، سدة الحكم، وإزاحة الفئات البرجوازية المدينية التقليدية، بعد أن تمكنت قواهم وأحزابهم من قطف ثمار الحراك السياسي، إبان فترة خمسينيات القرن العشرين المنصرم.
وفي سبعينيات القرن العشرين المنصرم، بنت النخب العسكرية التي حكمت باسم العروبة والقومية، أنظمة تسلطيةً وشمولية، صادرت وقمعت جميع أشكال الحراك السياسي والمدني والاجتماعي المخالفة لها، أو تلك التي لا تصب في مصلحة خدمة أنظمتها. وعملت على تدمير القوة السياسية للنخب المدينية الغنية، مقابل تنمية نخب ريفية جديدة. وأسهمت في بقاء الأنظمة واستمرارها، من خلال توسيع قاعدة السلطة اجتماعياً، حيث سعت إلى إدخال جموع كبيرة من الشغيلة والفلاحين في مؤسسات الأحزاب ومنظماتها، لكنها اُستخدمت في نفس الوقت كأداة لقتل السياسة في المجتمع، واكتفى قادتها بالتمتع بامتيازاتهم السلطوية، فسكنوا أبنية فخمة ومقرات حصينة، في مراكز المدن والبلدات وحواشيها، بعد أن لجأت الأنظمة إلى تقديم غنائم مادية لمحازبيها وأزلامها.
وأنتجت السياسات السلطوية، منذ ثمانينات القرن الماضي، نمطاً من الإذعان، مورس على مختلف التكوينات الاجتماعية، ونهض على قوة من الضبط والمراقبة، الرمزية والمادية، طاولت حتى الأحزاب الحاكمة نفسها، فلم تعد فاعلة أو مؤثرةً في قرارات السلطة الحاكمة وتوجهاتها، كما لم تعد تقوم بدور الهيئات أو المطابخ السياسية، التي تصنع القرارات، بل لواحق لمراكز السلطة.
وقد رفعت الأحزاب القومية رايات العروبة والقومية وفق رؤى وتوظيفات شعبوية، جعلتها أقرب إلى إيديولوجيا منها إلى هوية ثقافية ومواطنية وعيش مشترك، وبالتقابل والتضاد مع ما كانت تطرحه الأحزاب والحركات الشيوعية ومن لفّ في فلكها من شعارات وإيديولوجيات أممية وبروليتارية فجة. وراحت السلطة التي حكمت باسمها، تمارس الإجحاف والتفتيت والتخريب بحق مختلف تكوينات ومركبات المجتمعات العربية، وبحق الوطنية والمواطنية، نظراً لأن هذه الأحزاب فهمت القومية العربية فهماً قسرياً، إلحاقياً، يعتمد اللغة كأساس جوهري لانتماء الجماعة القومية، تحولت وفقه الأمة إلى كائن أنثوي، فيما كان منظروها مشدودين إلى ميتافيزيقا اللغة، وكارهين للتاريخ، ولم يدركوا من معاني اللغة ومبانيها سوى ظواهرها، وراحوا يسحبون الرابط الأبوي بشكل خيالي ومصطنع حين يتعلق الأمر بشخصنة الحاكم، والرابط الأمومي حين يتعلق الأمر بالجماعة، التي باتت متخيلة في أذهانهم، وبعيدة عن الواقع.
لم يؤقلم القوميون العرب مفهوم القومية حسب التربة العربية وتعيناتها، بل لجأ المنظرون منهم إلى التحليق اللغوي الميتافيزيقي، الناكر والكاره للتاريخ، وللعيش المشترك والمصالح المشتركة، التي تجمع مختلف حساسيات وفعاليات المجتمع السوري- على سبيل المثال. وزاوجت أطروحاتهم بين القومية وبين متصوّرهم الخاص للاشتراكية في عملية قسرية واختزالية لا حدود لها، حيث تحوّل كل من يدور في فلك هذا الزواج إلى ما يشبه المقدس، المتعالي والميتافيزيقي، يستمد قداسته من قداسة الميتافيزيقا نفسها، استناداً إلى تهويمات اللغة والجمل «الثورية» الفارغة من أي محتوى حقيقي.
ولم تعن العروبة – المطروحة سلطوياً- في أحايين كثيرة، سوى إيديولوجيا استبعادية، وزّع ممثلوها تهم الخيانة والعمالة على كل مختلف بالرأي والتوجه، واستبعدوا كل ما هو غير عربي، سواء أكان كردياً أم أمازيغياً أم آشورياً أم غير ذلك.
ثم فعلت المقايسة الميتافيزيقية فعلها الإقصائي ليتم استبعاد جميع من هم في حكم «غير العروبيين» من العرب أنفسهم، والمحصلة لمثل هذه الممارسات، كانت عروبة معزولة، منغلقة على نفسها، تبرر الاستبداد، وتقصي جميع المختلفين مع دعاتها بالرأي أوالتفكير، فاقتصرت على ثلة من الشعبويين المعزولين عن الناس وعن المجال المجتمعي العربي، وبالتالي، ابتعدت العروبة عن وصفها دالة انتماء وحاضنة هوية، بعد أن تحولت إلى إيديولوجيا طاردة للمواطنة والإجماع والتعايش.
وقد بقيت الأحزاب القومية واليسارية مشدودة إلى مفهوم الحزب التوتوليتاري، العسكري الانضباط، في أغلب لحظاتها التاريخية الحديثة، ولم تخرج إلا في لحظات نادرة عن نطاقه الضيق، لذلك لم تتمكن من السير باتجاه تشكيل تيار وطني، لا أثني ولا طائفي، أي خلق تشكيلة اجتماعية واسعة، تنهض على فعل تواصلي قائم على الحوار الفكري بين أفراد أحرار.
ونشأ مفهوم جديد للسلطة المستبدة داخل الأحزاب الحاكمة، هو مفهوم السلطة المتسلطة، على الأفراد وعلى المجتمع، مع تراجع مفهوم الحزب الممثل للمجتمع، مع أن أقلمات مفهوم السلطة أفضت في عالم اليوم إلى مفهوم السلطة المنظمة للمجتمع، ذلك أن دورها، في المفهوم الحديث، يتجسد في تنظيم القوى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ووضع هذه القوى في طريقة تناغمية قادرة على تحقيق الهدف الاجتماعي الوطني الأسمى، من خلال وضع نظم ومؤسسات قادرة على خلق تفاعل إيجابي سلمي بين هذه القوى عبر سلسلة من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، ينهض هدفها على تحقيق الأهداف الاجتماعية عبر الوسائل التكافلية والاحتضان، وليس عبر الإقصاء والإبعاد والتخوين.
ولعل قوى الثورة، اليوم، مدعوة إلى العمل لإعادة السياسة إلى المجتمعات العربية، بمعناها المدني الواسع، الذي حرمت منه على مدى عقود عديدة، بما يعني أن القوى الديمقراطية مدعوة أن لا تترك الساحة لقوى التطرف، التي تستغل الدين أو الطائفة أو الأثنية أو غيرها لتحقيق مآرب سياسية، وذلك من خلال العمل على تشكيل أحزاب وتيارات سياسية.
إلى جانب تشكيل جمعيات مدنية، وتشكيل تحالفات سياسية، بغية وضع مقدمات بناء دولة لجميع مواطنيها، والاحتكام إلى السياسة، والوقوف بوجه التطرف الديني والنزعات والولاءات والعصبويات الطائفية والمذهبية والأثنية، والعمل على جعل الانتماء للوطن، والاختيار للبرامج السياسية، وترجمة مشاعر الوحدة إلى عقد وطني، يراعي التعدد ويقبل الآخر، وقادر على التعبير عن مصالح جميع أفراد المجتمع، والبحث عن مخارج هادئة لآثار وإرهاصات الاستبداد.