الدوحة – (قنا) : يوشك العام الحالي على لملمة أوراقه ليطوي سجل أحداثه المتخمة بالتفاصيل وبينها صفحة سوداء دامية تكاد لا تنكرها عين الباحث ولا رؤية المراقب والتي تروي قصصًا وحكايات مأساوية حول رجال ونساء في هذا العالم امتشقوا القلم وآلة التصوير وآلة تسجيل سلاحا دخلوا بها معتركات حروب وصراعات لم يكونوا طرفًا فيها بل منخرطين في رحلة بحث مضنية عن الحقيقة والمعلومة الدقيقة والصحيحة ليقدموها صافية شفافة للرأي العام.. إنهم الصحفيون مراسلون ومصورون وفنيون.تقول تلك الصفحة السوداء الدامية من سجل أحداث العام أن أكثر من ستين صحفيا لقوا حتفهم وقضوا ضحايا أبرياء إما برصاص طائش أو متعمد أو بشظايا تفجير أو إعدام تعسفي جائر في رحلة بحثهم عن الحقيقة دافعين الثمن نيابة عن الرأي العام في مختلف بقاع الأرض خلال العام 2014 الموشك على الرحيل نصفهم سقط في ساحات الصراع والحرب بمنطقة الشرق الأوسط فقط.
وإذا كانت مهنة الصحافة تُصَنّفُ من أخطر المهن في العالم بحسب المفوضية العليا للأمم المتحدة فإن المناطق الأكثر خطورة على حياة الصحفيين حول العالم خلال عام 2014 كانت منطقة الشرق الأوسط وأوكرانيا وجنوب شرق آسيا.
هذه المسألة التي باتت تستحوذ على اهتمامات العالم حكومات ومنظمات إنسانية وحقوقية لكونها ذات أبعاد إنسانية مهنية تخدم الحقيقة في عالم أصبح فيه الإعلام غذاءً يوميًا للرأي العام قفزت إلى سطح الأحداث عشية إصدار الأمم المتحدة تقريرها السنوي حول ضحايا الكلمة والصورة الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لجلاء الحقيقة وتقديم المعلومة الصحيحة الموثقة.
فقد أظهر التقرير الدولي بأن ما لا يقل عن 60 صحفيًا قتلوا في العالم أثناء تأديتهم واجبهم الصحفي في عام 2014.
ومن جهتها قالت لجنة حماية الصحفيين التي تتخذ من نيويورك مقرا لها في تقريرها السنوي: إن هذا العدد يقل عن عدد الصحفيين الذين لقوا مصرعهم في عام 2013 والذي بلغ 70 صحفيًا. ووصفت اللجنة في تقريرها السنوات الثلاث الأخيرة وبينها عام 2014 بأنها تعد الأسوأ للصحفيين. مشيرة إلى أن حوالي ربع أولئك الصحفيين القتلى في عام 2014 ينتمون لمؤسسات صحفية دولية، فيما شكل الصحفيون المحليون نسبة 77 في المائة منهم.
وصنف التقرير سوريا بوصفها البلد الأكثر خطورة على حياة الصحفيين للسنة الثالثة على التوالي، إذ شهدت مقتل ما لا يقل عن 17 صحفيًا خلال هذا عام. و79 صحفيًا منذ بدء النزاع السوري في عام 2011.
وقتل أربعة صحفيين وثلاثة آخرون من موظفي الإعلام أثناء تغطيتهم للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وقتل خمسة آخرون في العراق وعدد مماثل في أوكرانيا، علاوة على اثنين من العاملين الإعلاميين.
في غضون ذلك كشف تقرير خاص بحقوق الصحفيين ان نسبة عالية من أخطر الجرائم المرتكبة تجاه الإعلاميين عربيا قيدت ضد مجهول أو جماعات مسلحة…معلنا عن مقتل 22 إعلاميًا منذ بداية العام الحالي دون ملاحقة الجناة.
كما أظهر التقرير أن اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي على الإعلاميين خلال الاعتداء الأخير على قطاع غزة كانت واضحة ومتعمدة وترتقي إلى مستوى جرائم الحرب، إلا أنه ليس هناك أي ملاحقات قانونية وحقوقية ضد هذه الاعتداءات التي تأخذ أشكالاً خطيرةً على حياة الصحفيين أثناء التغطية.
ووصف إفلات مرتكبي الانتهاكات الواقعة على حرية الإعلام بأنه ظاهرة تشترك فيها العديد من الجهات وخاصة تلك التي تشهد صراعات ونزاعات مسلحة.
وبين التقرير أن أخطر الانتهاكات التي يفلت مرتكبوها من العقاب تتمثل في ظاهرة قتل الإعلاميين، إذْ بلغ عدد الصحفيين الذين ذهبوا ضحايا الاغتيالات والقتل العمد منذ بداية العام الحالي 2014 وحتى نهاية أكتوبر المنصرم 22 إعلامياً، منهم 13 لقوا مصرعهم أثناء قيامهم بالتغطية الإعلامية، فيما تعرض 33 إعلامياً لمحاولات اغتيال بعضها باء بالفشل وبعضها الآخر نتجت عنه إصابات بالغة وخطيرة.
ويرى محللون أنه رغم التزام غالبية الصحفيين بالمعايير المهنية والأخلاقية في عملهم ولا سيما في أماكن النزاعات والحروب والتزامهم درجة عالية من الحرفية في تغطية الأحداث والحروب والنزاعات وعدم القفز إلى الاستنتاجات وإطلاق الأحكام من دون التسلّح بحجج دامغة وبراهين إلا أنهم يشكلون أولى الضحايا في الحرب إلى جانب الضحية الأكبر ألا وهي الحقيقة…ولأنهم أي الصحفيون يتوخون باستمرار أعلى درجات الدقة والحذر في بثهم الأخبار وإعدادهم التقارير فإنهم يدركون انطلاقا من وعيهم بأن كل كلمة يقولونها أو يكتبونها سيكون لها أثر كبير في توجيه الرأي العام أو خداعه وستترتب عليها نتائج عكسية أحيانا.
ولا شك أن هناك مبادئ وتقنيات مطبّقة عالميًا ومعتمدة في تغطية كل الحروب لا تختلف بين دولة وأخرى أو نزاع وآخر لأنها عامّة وترمي إلى ضمان أكبر مقدار من المهنية والموضوعية، ويبدو بأن الأهم في هذا الصدد أن يدرك المراسل المسؤولية الكبيرة المترتّبة عليه في إعلام الرأي العام وهذا يعني تزويده بالمعلومات والوقائع لا التحليلات والآراء الشخصية أو الأقوال والشائعات لذلك عليه تنقية تقريره من الذاتية، وهذا لا ينطبق على الحروب والنزاعات فقط إنما على عمله بشكل عام عليه التأكد من كل معلومة مرتين أو أكثر حتى لا يجد أي طرف مشترك في حرب أو نزاع أن هذا الصحفي أو ذاك متحيز له أو ضده.
وفي هذا السياق يعتبر عمل المراسل الصحفي الحربي صعبًا جدًا، حيث إنه في الحروب والاضطرابات يزداد الخوف والقلق ويزداد معهما بث الشائعات وتناقل الأخبار غير الموثوقة الأمر الذي يتوجب حينه على الصحفيين أن يدركوا أن تناقل الشائعات والأقاويل يكثر في النزاعات ويصبح التأكد من المعلومة أصعب بكثير.من هنا تكمن أهمية التأكد من أصغر معلومة قبل بثّها.
وأضاف المحللون أنه في هذه المهنة الخطرة لا يوجد فرق بين صحفي محلي يغطّي نزاعًا في بلاده وصحفي أجنبي لكن الصحفي المحلي ربما يكون انخراطه في تغطية الحدث ذا صبغة عاطفية نوعا ما وهذا غير سيئ أحيانًا إذ ربما ينعكس إيجابا على العمل.
لكن المعايير المهنية تشدد في الغالب على عدم الانجرار وراء العاطفة حيث لا يجب السماح للمشاعر الشخصية والعاطفية بان تملي على الصحفي الوقائع.. ومع ذلك يمكن أن يقدّم الصحفي الوقائع في قالب عاطفي لتضفي مزيدًا من الإنسانية على العمل.
وبالرغم من ذلك يتوجب على الصحفي ألا يسمح لمشاعره بأن تملي عليه الوقائع من دون أن تكون قد حصلت فعلاً… وتكمن ميزة الصحفي المحترف في التدقيق في المعلومات والتشكيك بكل بشيء.
ويشار هنا إلى أن يوم الثاني من نوفمبر من كل عام هو اليوم العالمي «لإنهاء الإفلات من العقاب في الجرائم بحق الصحفيين» الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة للتضامن مع ضحايا الإعلام.
فقد ذكرت تقارير إعلامية أن 76 صحفياً قضوا في مالي وسوريا والصومال وباكستان منذ بداية العام الحالي… وتكشف حوادث الاعتداء على الصحفيين عن الدور الهام الذي يقوم به الإعلام في نقل فظائع الحرب وويلاتها والمخالفات التي ترتكب بحق القانون الدولي الإنساني.
لذلك كان الاعتداء عليهم هو اعتداء على حق الشعوب في الحصول على المعلومات ونقل الحقيقة من أرض النزاع كما هو ووفق المعايير المهنية، وليس كما يريد أطراف النزاع الذين قد يروا أن في نقل الحقيقة كشفا لأباطيل لا يرغبون في وصولها للرأي العام.
وبغض النظر عن خطورة مهنة الصحفيين فإن من ينتسب إليها يدرك خطورتها مسبقا ومع ذلك يمضي في تحمل تبعاتها مستندًا إلى جملة قواعد وقوانين دولية اتفق عليها المجتمع الدولي بمختلف دوله وهيئاته ومنظماته ونقاباته المهنية… وهناك بالتحديد قانون دولي خاص في شأن حماية الصحفيين الذين يقومون بتغطية النزاعات المسلحة.
وهنا لا بد من العودة إلى قواعد القانون الدولي الإنساني الذي هو المصدر الوحيد لهذه الحماية القانونية ويسبغ على الصحفيين ذات الحماية المكفولة للمدنيين، ويعتبر أن الاعتداء على الإعلاميين ومهاجمة مقار الوسائل الإعلامية جريمة حرب، ويترتب مثول مرتكبيها أمام المحاكم الدولية، شريطة عدم اشتراكهم بشكل مباشر في العمليات العدائية.
وقد مرّت مسألة حماية الإعلاميين والصحفيين في زمن النزاعات بمرحلتين أساسيتين تتميز كل منهما بملامح واضحة: المرحلة الأولى: مرحلة منح الحماية الدولية للصحفيين المعتمدين والملحقين بالقطاعات العسكرية دون أن يكونوا جزءًا منها.
وتستند هذه المرحلة إلى القواعد المتعلقة بأعراف الحرب البرية الواردة في اتفاقيات لاهاي عام 1907 وجنيف لعام 1929 وجنيف الثالثة لسنة 1949 والتي اعتبرت أن الصحفيين ومراسلي الحرب يعدّون ضمن الفئات التي يمكن أن ترافق الجيش دون أن تكون جزءًا منه، وأن الصحفيين المراد حمايتهم هم الصحفيون المعتمدون لدى سلطات الجيش الذي يتبعونه ويحملون بطاقة أو تصريحاً يدل على ذلك.
والمرحلة الثانية: مرحلة منح الحماية الدولية للصحفيين المعتمدين وغير المعتمدين في البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الخاص بحماية ضحايا النزاعات الدولية المسلحة، والذي اعتبر الصحفيين الذين يمارسون مهنة خطرة أثناء النزاعات المسلحة كالمدنيين الذين ورد ذكرهم في المادة (5) من البروتوكول ذاته.
هذه الاتفاقيات أفردت كل منها مادة تتعلق بتوفير الحماية لفئة من مرافقي القطاعات العسكرية حيث جاء في اللائحة المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية المنعقدة في لاهاي سنة 1907 في الفصل الثاني حول «أسرى الحرب» من القسم الأول في المادة 13، بأن «يعامل الأشخاص الذين يرافقون الجيش دون أن يكونوا في الواقع جزءاً منه كالمراسلين الصحفيين ومتعهدي التمويل الذين يقعون في قبضة العدو ويعلن حجزهم كأسرى حرب شريطة أن يكون لديهم تصريح من السلطة العسكرية للجيش الذي يرافقونه»، ويلاحظ على هذا النص أنه غير كافٍ لتوفير حماية فاعلة للصحفيين من جوانب عديدة.
وعليه وضعت الأمم المتحدة أسسا قانونية جديدة تلزم الدول أو الجماعات أطراف أي نزاع أو حرب بتوفير مستلزمات الحماية الجسدية والنفسية للصحفيين الذين يغطون تلك الحروب والنزاعات مع ضمان حرية الحركة والتنقل لهم وإتاحة الفرصة أمامهم لنقل رسائلهم الصحفية دون التدخل المباشر لتغيير جوهر الحقيقة أو المعلومة في تلك الرسائل…وحيث إن الصحفي لا يزال عرضة للخطر في مختلف بؤر التوتر والصراعات إلى أن تلتزم جميع الأطراف المعنية بالقوانين التي تكفل حمايته.